تمر معظم الحركات السياسية أو الأحزاب بمراحل في تاريخها و تطورها, ابتداء من تقديمها كأفكار لمجموعة معينة تعمل على نشرها, وجذب المؤيدين لها, وتسويقها ضمن المجتمع المستهدف, ومن ثم العمل على كسب التأيد لها, وإعطاءها الشرعية المطلوبة, من خلال نظم داخلية واليات عمل تقر وفق القانون الوطني لتلك الدولة, وممارسة العمل السياسي لتسلم السلطة، وتحقيق الأهداف التي نادت بها الحركة أو الحزب.
لم تكن ثمة أحزاب بالمعنى الحقيقي منذ أوائل السبعينات، وبعد هجمة حزب البعث وتسلطه على مقدرات الدولة العراقية بكل مفاصلها, عمل على إلغاء كل محاولات الأحزاب أو الحركات أو حتى الأفراد، لنشر فكر غير فكر حزب البعث المنحرف, ناهيك عن العمل على تطبيق هذا الفكر.
بعد سقوط البعث عام 2003 انفتحت الأمور على مصراعيها, وظهرت العشرات من الأحزاب. بعضها كان حقيقيا وله امتداد شعبي وجماهيري، أو قيادات معروفة وله أفكار ومبادئ وأهداف, وبعضها كان فقاعة, وبعضها كان عبارة عن مجموعة تجمعها مصالح, أو مناطقية أو عشائرية, وكانت هناك أحزاب تشكلت كواجهة لدول أخرى وبعضها أحزاب تاريخية.
بدأ التيار الصدري كتجمع شعبي يجمع محبي أو مقلدي السيد محمد صادق الصدر قدس ممن يتبع رأي ولده السيد مقتدى الصدر, ثم تطور ليكون جهة تطرح مقاومة الاحتلال بالسلاح كطريقة للعمل وحصلت مواجهات عدة وكانت عنيفة وفي أكثر من محافظة في العراق, ولم يكن هناك أي جناح سياسي ظاهر له, ثم تحول التيار تدريجيا بعد انشقاق مجموعات منه أصرت على بقاء حمل السلاح كخيار أول, إلى تيار سياسي له قيادة سياسية وتعمل ضمن سياقات العمل السياسي الواقعي في العراق.
يعود تاريخ حزب الدعوة الإسلامية بمختلف أجنحته ومسمياته إلى بداية السبعينات وربما اسبق قليلا, وكان حزب النخبة المتدينة المثقفة, وجذب الشباب لأفكاره الثورية ورفضه للظلم وما تمتعت به قيادته من كاريزما ومكانة في المجتمع, إلا أن الهجمة الشرسة لحكم البعث ضده أدت إلى إنهائه من الوجود تماما بإعدام كل من له علاقة بمن يمكن أن يشك في كونه يحب أو يؤيد الأفكار, ناهيك عن من انتمى أصلا, وتعرض ما تبقى من الحزب للانشقاقات خلال فترة المعارضة في الخارج, ما أضعفه كثيرا لانشغاله بالخلافات و شخصنتها, وبعد 2003 عاد الحزب, إلا أن من عاد هم قيادة لاتملك الجمهور وإنما التاريخ فقط, واستفادت كثيرا من تسلم قادتها للسلطة والحكم في العراق, ولكن لم تنجح في تسويق أفكارها وتاهت بين إرضاء القوى الإقليمية والدولية المؤثرة وتقديم نفسها كحزب علماني مدني,وبين تاريخه كحزب دعوي إسلامي,وجرفته السلطة ومقاليد الحكم عن بناء قاعدة جماهيرية للحزب, وما حصل هو خلق جمهور للأشخاص والرموز في الحزب,ولم يسجل لها نجاح يذكر على مستوى العلاقات على مستوى المحيط الإقليمي إلا بشكل محدود جدا لقياداته كأشخاص.
تأسس المجلس الأعلى الإسلامي العراقي في أواسط الثمانينات لتجمع من القادة المؤسسين لحزب الدعوة وبعض أحزاب المعارضة, ثم استمر كتشكيل سياسي له جناح عسكري يتمثل بمنظمة بدر, وكان له وجود مؤثر على الساحة السياسية والمعارضة بما تمتلكه زعامته من تاريخ ديني ونضالي , وبعد 2003 نجح المجلس في تقديم نفسه كحزب سياسي وكسب جمهور عريض خصوصا في مناطق الوسط والجنوب, وكان نجاحه الأكبر في تقديم نفسه كحزب إسلامي معتدل له مقبولية لدى جميع الأطراف السياسية في الساحة العراقية مع علاقات جيدة مع المحيط الإقليمي, ونجح في تحقيق تطور على مستوى التجديد في بنيته الهيكلية والفكرية أثمرت نتائجها خلال الانتخابات المحلية الأخيرة.
لم تكن هناك أحزاب على الساحة السنية سابقا,حيث حاول النظام السابق أن يظهر حزب البعث المنحل وكأنه حزب السنة الأوحد وحامي حقوقهم, وحاول غرس تلك الفكرة بالوعي المجتمعي للمناطق الغربية, من خلال تقريب بعض أبنائها وتسليمهم مفاصل مهمة من الدولة,وربط مصيرهم به,ولم يكن هناك إلا تواجد بسيط وبعلم الحكومة حينها لجهات صوفية أو اخوانية, وبعد سقوط حزب البعث وحكمه, حصل انكماش سببه التخوف من رد فعل من تعرض للظلم خلال حكم البعث, ومع عدم حصول ما كان متوقعا, ظهرت بعض الأحزاب, التي كاد أن يغلب عليها اجتماع المصالح أو العشائرية والمناطقية, باستثناء وجود الحزب الإسلامي كتيار يمثل الأخوان المسلمين بنموذجهم العراقي وكان له دور وجمهور خلال السنوات الأولى إلا انه تعرض لنكسه فيما بعدها لفشله في تقديم نموذج إسلامي قادر على الحكم في بعض المحافظات أو المفاصل الحكومية التي استلم دفتها, وانشقاق الكثير من شخوصه وقياداته, وبقي التحرك السياسي هناك أسير الرموز والشخصيات العشائرية بحكم طبيعة المنطقة .
وكانت هناك أحزاب تاريخية كالحزب الشيوعي والحزب الوطني الديمقراطي, ولكنها لم تنجح في بناء قاعدة جماهيرية لأسباب ربما تتعلق بتغير المجتمع وبنيته وعدم تطور تلك الأحزاب وأفكارها رغم تاريخها العريق.
وكما سلف فان هناك الكثير من الأحزاب أو الحركات التي ظهرت هنا وهناك, خصوصا في فترة الانتخابات, ولكن لم يكن لها وزن حقيقي أو اثر في الشارع, ولم تطرح رؤى أو برامج حقيقية يمكن أن تجذب المواطن العراقي, وكانت تنتهي بمجرد انتهاء موسم الانتخابات.
من الواضح جدا أن هناك عدم نضوج في العمل السياسي وعدم وجود مبادي أو أسس عامة, لو لنقل أعراف سياسية لدينا, فلا احترام لأي اتفاقات ويمكن أن تخالف بكل سهولة, ويمكن أن تقام التحالف بعيدا عن المبادئ, وتتخذ المواقف نكاية بأشخاص وأحزاب, وكان الموضوع لا يخص شعبا وجمهورا للحزب أو التيار.
هل المشكلة الحقيقية عدم نضج الأحزاب أو التيارات لدينا من الناحية الفكرية واستمرارها في التفكير والعمل كمعارضة؟
أم عدم نضوج الفكر السياسي لدينا أصلا كمجتمع؟
, أم هو مشكلة اجتماعية أو لنقل مجموعة أمراض اجتماعية لا تخص السياسة فقط؟
أم هو قلة وجود القيادات المؤهلة من حيث المصداقية والمقبولية لدى الشارع؟
أم هو قوة اللاعبين المؤثرين على الساحة العراقية وانفتاحها لكل المتدخلين؟
أم هو كل ماسبق؟
مقالات اخرى للكاتب