يتبادل بعض الأخوة المقالات التي تشيد بالتجربة التركية التي يقودها أردوغان. والكثيرون منا يؤيدون ذلك ويؤكدون على أن ما حققه حزب أردوغان بقيادته هو مثار إعجابهم أيضا, رغم الملاحظات التي تؤخذ عليه من قبل قوى الدولة الأتاتوركية العلمانية.
ثمة أرقام تشير إلى قفزات إقتصادية هائلة حقا وإنجازات في مجال تحقيق السلم الإجتماعي الرصين, وهي لا بد أن تدفع بإتجاه دراسة الأسباب التي تجعل الإسلام السياسي العربي متخلفا وهمجيا وفاسدا, بالمقارنة مع الإسلام السياسي التركي الذي يبدو لحد الآن بعيدا عن الإسقاطات المتخلفة للإسلام السياسي المتناثر في العديد من بقاع الأرض وأولها الأرض العربية.
لكن ثمة ما يوآخذ عليه أولئك الأخوة, فهم حينما يشيدون بالتجربة التركية ينسون أن الموضوعة ستكون ناقصة حقا ما لم يجري التوقف أمام ظاهرة العثمنة التي يتأسس عليها موقفنا الضدي النقيض, ونقصد بالعثمنة هنا تلك الميول السياسية المكشوفة لإعادة تشغيل الدور التركي إقليميا.
إن ذلك بالإمكان التعرف عليه بقدر كبير من خلال الساحة السورية وتفحص مستوى التدخل بشؤونها حيث كانت تركيا ومازالت الداعم الاساسي لحركة التمرد ضد نظام الأسد, وتجد تركيا نفسها من وقت إلى آخر طرفا داعما لـ (سنة العراق) حيث وفرت لهم أيضا دعما يتقدمه السياسي ولا يتأخر عنه المالي أيضا, كما ويمكن أيضا التعرف على الدور الذي لعبته تركيا لدعم نظام الإخوان المسلمين في مصر وموقفها المضاد للثورة الجماهيرية التي أطاحت بحكم محمد مرسي العياط.
لكن هناك ثمة ما يجعل هذا الرأي ناقصا, فالتدخل التركي بجميع أشكاله ومستوياته لا يمكن الحكم عليه بعيدا عن إخضاعه لمعطيات وتداعيات الصراع الإقليمي الذي تشكل تركيا طرفه الأول بيما تشكل إيران طرفه الثاني مما يسمح لإعتبار كثير من معطيات هذا الصراع نتيجة لرد فعل على فعل إيراني مقابل بات يتحرك على الساحة الإقليمية بأطماع فارسية معروفة, وسيجعلنا هذا نتأني في الحكم على الدور التركي الإقليمي بدعوى أنه يأتي إنعكاسا تلقائيا لأيديولوجية تركية إسلامية شاملة تحاول إعادة مجد الأمبراطورية العثمانية , وإنما أيضا لإعتباره حالة فرضتها متطلبات تعطيل فعل التدخل والإمتداد الذي يمارسه الإيرانيون في المنطقة لكي لا يكون ذلك على حساب تركيا نفسها.
إن مراجعة هذا المشهد بمهنية مبتعدين عن الإنحيازات الضدية المسبقة سيضعنا أمام الحقيقة التاريخية التالية: إن الدولتين التركية الإيرانية إبان مرحلتي الدولة الأتاتوركية والدولة الشاهنشاهية أفلحتا في تحقيق تقارب كان من ثمراته وجودهما في حلف واحد هو حلف بغداد الذي كان العراق ايضا عضوا فيه بالإضافة إلى باكستان , وهذا قد أدى بدوره إلى التخفيف كثيرا من حدة المواجهات التاريخية السابقة بين الدولتين وأنقذ بلدان المنطقة وفي مقدمتها العراق من تداعيات تلك المجابهة فصار سهلا عليها ان تحافظ على إرادة وطنية مستقلة وغير خاضعة لأحد البلدين.
غير أن الأمر لم يبقى على حاله إذ سرعان ما دخلت المنطقة بمخاض عسير نتيجة لسقوط حكم الشاه في إيران وقيام الدولة الإسلامية. إن ذلك لا يعني أن سياسة الشاه كانت بعيدة تماما عن التدخل بشؤون الدول الأخرى غير انها لم تكن ذات دوافع ايديولوجية صارمة كما صار عليه الحال بعد مجيء الخميني الذي طرح مفهوم دولة الفقيه التي كان من أهم أهدافها الإستراتيجية قيام إمبراطورية واسعة تشمل بداية الدول ذات الكثافة الشيعية وكان في مقدمة ما انتجته إنفجار الحرب العراقية الإيرانية.
أما التيار الإسلامي التركي فقد أفلح في الوصول إلى سدة الحكم بعد سنوات عدة على قيام الدولة الإيرانية الجديدة وعن طريق الإنتقال السلمي للسلطة, وهكذا فإنه لا يمكن تحديد حجم الدورين, التركي والإيراني دون التوقف أمام ذلك التدرج التاريخي وبدون أيضا حساب مشهد العنف الثوري الذي رافق إنفجار الإسلام الإيراني على طريق التوسع وتصدير الثورة والذي ادخل المنطقة في مرحلة بدأ فيها الإقليمي يتقدم بوضوح على الوطني ويضعه في خدمته.
إن تأشير هذه الحقائق يؤسس لحقيقة أن إعادة تفعيل الإقليمي في عصرنا الحالي على حساب الوطني جاء بفعل إيراني سبق الفعل التركي بأكثر من عقد, وهذا يؤسس بدوره لواقع أن السياسة التركية الإقليمية في عهد دولتها الإسلامية جاءت لاحقة لضدها الإيراني, وصار مقدرا أن لا يتم البحث فيها بمعزل عن كونها على مستويات عدة عبارة عن رد فعل على الفعل الإيراني السابق لها.
إن ذلك يجعل الصورة واضحة لكنه لا يجعلنا نمر سريعا على النتائج, فسواء كان الأمر قد تأسس على فعل أو على رد فعل, فَهُما, الفعل ورد الفعل, قد أديا او شجعا على تراجع تأثير القرار الوطني لصالح تأثير القرار الإقليمي مما قاد إلى تمزيق الساحات الوطنية في العديد من البلدان, كالعراق وسوريا ولبنان والبحرين واليمن, وهي البلدان ذات الثنائيات المذهبية.
ان الإشادة بالتجربة التركية الحالية في حدود ساحتها الوطنية, اي على مستوى ما أنجزته من تقدم إقتصادي باهر لا يجعلنا نتغاضى عن حقيقة إن إستخدام ذلك يجب ان لا يكون على حسابنا. وغدا, إذا ما إستطاع الإيرانيون تفجير قنبلتهم الذرية فإننا غير ملزمين أيضا أن نكون من رعاياهم لمجرد تحقيقهم لذلك الإنجاز الكبير أو لغيره حتى لو صارت تُعد بالألوف.
أما الحديث عن الموقف التركي المعادي لإسرائيل فهو لا يقارن بأخيه الإيراني على مستويات متعددة, ومع ذلك فإن الطرفين ملزمان أن لا يتبادلا بيع قضايانا الوطنية في سوق التبضع الفلسطيني.
إن التجربة التركية على صعيد الإنجاز الداخلي هي كبيرة ومبهرة, وعلينا أن نتعلم منها الكثير, مثلما علينا ان نتطلع أيضا إلى إقامة علاقات إيجابية متوازنة مع كل جيراننا وفي المقدمة منهم إيران وتركيا دون أن ندفع لهم ضريبة الإعجاب بتجاربهما الداخلية على حساب وطننا وسيادته.
ولنتذكر أن تجربة إسرائيل على صعيد البناء الداخلي هي تجربة تتفوق على التجربة التركية وتسبقها بعقود, لكن ذلك لا يجعلنا نتخلى عن حق الفلسطينيين في وطنهم, حتى لو لم نكن معجبين بحماس أو لم نكن مغرمين بفتح.
مقالات اخرى للكاتب