هل استمرأ العراق حالة التخلف التي نحيا فيها منذ عقود، ولماذا تسنى لمعظم مجتمعات العالم، حتى تلك التي كانت تتخلف عنا بعشرات الأعوام وفي مقدمتها دول الخليج، ان تنهض من كبوتها فتسبقنا بعشرات السنين؛ لتنشئ صناعاتها المحلية والسياحية وغيرها من مصادر الثروة بخلاف النفط، غير عابئة بانخفاض اسعاره، التي يقول الخبراء ان بمقدور تلك الدول امتصاص الصدمة، في حين يعرب مسؤولونا يومياً عن الفزع مما ستؤول اليه الامور في حال استمرار انخفاض اسعار النفط، بعد اخفاقنا في انشاء بناء اقتصادي سليم طيلة اكثر من نصف قرن شغلناها بالانقلابات والحروب وقمع الناس وسرقة الثروات.
يذكر بعض المؤرخين، ان المجتمع المدني العراقي، شرع في التكون ابتداءً من اوائل ثلاثينيات القرن الماضي، فتكونت المؤسسات والاحزاب والصحافة المستقلة وغيرها من المتطلبات الاساسية لقوامه، في الوقت الذي كانت دول كثيرة لم تزل تعيش منغلقة على ذاتها، وعلى سبيل المثال فان دولة الإمارات العربية المتحدة نودي باستقلالها في عام 1971، وهي تمتلك الآن بحسب ما تذكره التصنيفات الدولية، واحداً من "أكثر" الاقتصادات نمواً في غرب آسيا، و اقتصادها يحتل المرتبة "الثانية والعشرين" على مستوى العالم في أسعار الصرف في السوق، وهي "ثاني أكبر" دولة في القوة الشرائية للفرد الواحد، و لها مرتبة عالية نسبياً في مؤشر التنمية البشرية للقارة الآسيوية، و المرتبة "الأربعين" عالمياً، وتصنف على أنها ذات الدخل المرتفع والتطوير الاقتصادي النامي من خلال صندوق النقد الدولي؛ والشيء نفسه يمكن ان يقال عن مجتمعات ودول اخرى افلحت في بناء كياناتها.
"ان من اصعب المشكلات التي تواجه الديمقراطية، مشكلة اقامة علاقة صحيحة بين العلم والسياسة، وبين المعرفة والسلطة"، ذلك ما يقوله المفكر الإنجليزي برتراند رسل مضيفاً، انه "في ظروف المدنية الحديثة يعتمد المجتمع عموماً، كما تعتمد الصناعة، على العلم البحت، والتطبيقي، لتحقيق اطراد تقدمهما ورخائهما". ويبدو ان الدول التي سبقتنا في شوط البناء والتطور، بعد ان كنا سبقناها بمديات كبيرة، قد تعلمت كيف تنتفع من التجربة المتراكمة التي منحتها امثولة الدول الاخرى، في عمليات الاعمار وبناء الدول المتحضرة، لتقتدي بها، مع العلم ان دولاً كثيرة في اوروبا وآسيا تتفوق علينا الآن، كانت قد شرعت في البناء بمجرد الفكاك من اسر حروبها التي تسبب فيها حكامها المستبدون، اذ يمكن القول ان نهاية الحرب العالمية الثانية في ايلول عام 1945 هي البداية الفعلية لعمليات البناء واعادة الاعمار فيها؛ وفي الحقيقة فان تلك الدول انطلقت بخطوات جبارة بعد اقل من سنتين فقط من انتهاء تلك الحرب المدمرة، التي ادت الى تقويض اقتصاد الدول الاوروبية وانتشار الفقر والبطالة على نطاق واسع بحسب المؤرخين، ولقد ادى التعاون المتبادل فيما سمي بمشروع مارشال الذي اعلنه وزير الخارجية الأميركي جورج مارشال في حزيران 1947 الى توفير الاموال المطلوبة لتمويل اقتصادات أوروبا، وإعادة اعمار وتشغيل الاقتصاد والمصانع في دولها.
لقد توضحت نتائج خطة مارشال بالأخص في كل من المانيا واليابان اللتين تعرضتا الى ضربات مميتة خلال الحرب؛ فجرى اعادة بناء رأس المال في كل منهما.
يمتلك العراق الاموال الهائلة التي توفرت له بصورة مباشرة بعد عام 2003 اثر رفع العقوبات التي كانت مفروضة منذ عام 1990، وبرغم امتلاك العراق لتلك الاموال وتزايدها بعد ارتفاع اسعار برميل النفط ليتجاوز 100 دولار قبل الانخفاض الاخير، وبرغم امتلاكنا علاقات مباشرة مع الولايات المتحدة الاميركية ودول اوروبا المتطورة؛ فاننا لم ننتفع من كل ذلك، وبدلاً من ان نشرع في عملية كبيرة لإعادة بناء الخراب الذي ورثناه من الانظمة السابقة، جرت اكبر عملية لتبديد الاموال والتصرف بها، ونهب ما يمكن نهبه، فلم نحقق ولو جزءاً يسيراً من البناء، فالكهرباء لم تزل تحبو، والمصانع معطلة، والبطالة والفقر يتزايدان يوماً بعد يوم؛ يجري هذا ونحن على وشك ان ننهي السنة 12 منذ التغيير في نيسان 2003، في حين ان دول اوروبا انطلقت لإعادة بناء المصانع والخدمات وكل شيء بعد اقل من سنتين فحسب من انتهاء حربها العالمية الهائلة، بل قبل ذلك بمجرد انتهاء الحرب؛ لأن رجال السياسة لديهم، الذين تسلموا السلطة اثر الحرب تصرفوا بكفاءة ومهنية وحرص، ولم يجعلوا التنافس على المناصب، هدفاً بذاته، بل عدوه وسيلة لبلوغ الغاية المتمثلة بإعادة اعمار بلدانهم؛ فحلوا المشكلة الرئيسة التي تواجه الديمقراطية، وذلك بإنشاء علاقة صحيحة بين السياسة والعلم، وبين السلطة و المعرفة، كما نوه عنه مفكروهم، واعتمد مجتمعهم على العلم الخالص، والإجرائي لتحقيق الرخاء، فحققوا الطفرات الهائلة في بضع عشرات من السنين، بعد ان كان المجتمع البشري يعيش في حقب مظلمة طيلة مئات السنين.
ان ابسط واهم شيء يومي ملح، ونعني به الخدمات، لم نتوصل نحن في العراق الى حل اشكالياته الكبيرة بالنسبة لنا حتى الآن برغم مرور عدة سنوات، فكيف بنا مع عملية بناء كبيرة لإحياء المصانع و الزراعة و تشغيل الناس، و القضاء على الفقر وخلق مجتمع مرفه، كيف لنا ان نحقق ذلك، ونحن منشغلون بالصراع السياسي لأغراض الصراع بذاته ولذاته، وليس من اجل تحقيق اهداف المجتمع، لقد بلغ سوء الاداء لدى مؤسساتنا الى الحد الذي اصبح لسان حال كثير من الناس يلهج بالتهكم من الوضع القائم مطلقين العنان لتساؤلاتهم، مستفهمين باستغراب، هل علينا استيراد سياسيين يحكموننا وخبراء يعيدون بناء بلدنا؟! فيجيبهم آخرون، انكم بانتخابكم الوجوه ذاتها و الاسماء نفسها، قد جلبتم على انفسكم المصائب، ولكن تلك نصف الحقيقة، اما نصفها الآخر فباعتقادنا انه يحمل الأمل، الذي من دون تحققه لن نستطيع الحياة بكرامة.
مقالات اخرى للكاتب