قبل عشر سنوات ونيف اجتمع القوم، وتعجلوا لتكوين توافقهم الذي قالوا انه سيسعدنا جميعاً، فصدقناهم، ولم نكتشف مخاطر ذلك التوافق، الا بعد ان وقعت الفأس في الرأس كما يقال، اذ ان توافقهم وبدلاً من ان يوحد المجتمع، عمل على تقسيمه بحسب الاديان والمذاهب والقوميات وغيرها من المسميات غير المطلوبة في مضمار العمل السياسي؛ ولكنهم اقحموها فيه وابرزوها هماً اول فأساءوا الى السياسة، والى تلك المسميات في الوقت عينه، وخسرنا بذلك كثيراً فيما ربح السياسيون!
من المعلوم ان التوافق على وفق مفاهيم الفلسفة والسياسة له اشتراطاته، فلقد جاء في احد تعريفاته الفلسفية، انه يعني أن على الفرد ان "يسلك مسلك الجماعة ويتجنّب ما عنده من شذوذ في الخلق والسُّلوك"، اما مفهوم التوافق السياسي فيقول المؤرخون انه أُطلِق لأول مرة على طبيعة عمل الحكومة البريطانية للمدة ما بين 1945-1979مبينين ان تلك الظاهرة تمثلت "بتوافق" الحزبين الرئيسين، المحافظين، والعمال، على السياسات العامة للحكومة، "مثل تحقيق الرفاهية، والضمان الاجتماعي، وخدمات الدولة في القطاع الصحي، ونشر الصناعة"، أي ان التوافق جرى على البرامج الحكومية المبنية على اساس البرامج الانتخابية، المرسومة على اساس خدمة المجتمع، وليس توافقات على المناصب الوزارية او حيازة المؤسسات مثلما يجهر مسؤولونا ليلاً ونهاراً، هذا اذا حصرنا التوافق في اطاره التنافسي الحزبي، وحتى هذا لم ينفذه سياسيونا، الذين كان لهم دور كبير في اذكاء التوترات في المجتمع التي اوصلتنا الى المأزق الذي نحن فيه الآن.
اما اذ اردنا الحديث عن توافق وطني، فلقد فشلوا فيه بامتياز؛ لأنهم ابرزوا في نقاشاتهم بشأن التوازن مفاهيم دينية وطائفية وقومية وفئوية ضيقة، وأصر كل منهم على تثبيت تلك المفاهيم، التي لا تعد هماً فيما يتعلق ببناء المجتمع المتنوع المشارب والاهواء، الذي يريد عملية توافق توحده على اهداف عامة؛ لا ان تشتته في مسارب لن تعني شيئا فيما يتعلق بحياته الواقعية.
وبصريح العبارة نقول، اذا كان السياسيون يصرون على ان التوافق يخص الجانب السياسي والتنافس الحزبي على المناصب وحيازة الوزارات، فانه و استناداً الى التجربة المريرة التي عاشها العراق، ودفع الناس كثيراً من الضحايا بسبب اخفاقها؛ فان على التوافق السياسي ان يتضمن اول ما يتضمن اختيار اشخاص للمناصب الحكومية يتفق عليهم الجميع، كأن يكونوا من اصحاب التخصص في مجال عملهم ووظائفهم بغض النظر عن انتماءاتهم السياسية، وغير بعيد عنا التجربة التونسية التي لجأت في الاوقات الحرجة منذ اسقاط النظام السابق، الى توافقات حقيقية افرزت اطقم وزارات كاملة يقودها مستقلون، في حين اكتفت الاحزاب الفائزة بدورها النيابي التشريعي، وكذلك يمكن ان يقال عن التجربة المصرية، التي كثيرا ما يفلح فيها السياسيون في التوافق على وزراء مختصين "تكنوقراط" من المعروفين لدى الرأي العام، من دون ان يلتفتوا الى انتسابهم السياسي و الاثني، وهم بذلك يفكرون بمجتمعهم؛ فلماذا نشذ نحن عن ذلك باقترافنا التوافق المغلوط و المخيب في كل مرة
مقالات اخرى للكاتب