لا يخفي العراقيون في احاديثهم اشادتهم بالماضي والشوق الى عودة ما يسمونه الزمن الجميل، برغم انه لم يك جميلاً وليس في معظمه ما يشجع على الحنين وحتى التذكر؛ وباعتقادي ان العراقيين من اكثر الناس الذين يعبرون عن اشتياقهم الى ماضيهم برغم قسوته، اضافة الى انه لم يرحمهم مثلما لم يرحم اجداد و آباء اغلبية العراقيين.
لم يجن سكان العراق طيلة اكثر من نصف قرن من الزمان، غير شراسة وهيمنة ايامهم المجحفة؛ فلقد افترست الناس الحروب والفقر والامراض والقمع والسجون، و انخفض المعدل الاعتيادي لعمر العراقي في ثمانينيات وتسعينيات القرن الماضي الى مديات كبيرة، الى الحد الذي كان من النادر ان يتجاوز فيه عمر الانسان الستين او السبعين عاماً، كان ذلك يحدث لدينا في وقت كانت كثير من دول العالم تعيش ازمانها الجميلة حقاً؛ بعد ان تخطت جميع ازماتها الاقتصادية وانشأت مدناً بأكملها للترفيه، ونوعت في أساليب دعم السكان، وتحقيق الرعاية الاجتماعية و الصحية؛ فلماذا يحن العراقي وهو المحروم من كل ذلك وجميع ضروب الحياة اللائقة، الى ماضيه المكفهر.
ربما وجد العراقي في الحنين الى بعض صور الماضي الجميلة عزاءً له من الحاضر المتلبد، لأنه بات وبصراحة يفتقر الى جميع الامور التي تنسجم وحياة ايجابية فاعلة، واول ذلك العلاقات الانسانية الاعتيادية التي كان الناس يقيمونها بعفوية برغم فقرهم و مآسيهم، وليس مثلما نرى الآن من ضعف كبير في الوشائج الاجتماعية لدى العراقيين، الى الحد الذي وصلنا الى حالة لن نرى فيها الا شارعاً واحداً هو "المتنبي"، وفي يوم واحد في الاسبوع في العاصمة بغداد، التي يتجاوز نفوسها السبعة ملايين، يجمع الناس حول روابط اجتماعية وعلاقات مشتركة، وحتى هذه لا تخلو من التوتر والمرارة والحسرة!، اذ بمجرد انتصاف نهار يوم الجمعة الذي يلتقون فيه يسارعون الى الجري للعودة الى بيوتهم و مواصلة طريقتهم المعهودة في العيش مع عزلتهم الاجتماعية المكينة، ولولا الفيس بوك وبعض اساليب التواصل الاجتماعي و "الستلايت" وغيرها من الوسائل التكنلوجية الحديثة التي صنّعها ووفرها لنا الآخرون، لما تسنى للعراقي الاتصال بأشباهه من بني البشر ولتفاقم التخلف و تواصل انعدام سبل المعرفة.
كان الماضي ينعم ببعض الصور الجميلة، تسنى للناس فيه، لاسيما في العاصمة بغداد ومراكز المحافظات، ان يحظوا بأماكن التجمع الاجتماعي والثقافي، ودور السينما واماكن التسلية واللهو البريء، والمقاهي المتكاثرة التي اخذ بعض منها لاسيما في بغداد يختص بنوع معين من المرتادين، فذلك مقهى المعقدين و آخر للأدباء والسياسيين وغيره للشطرنج، و الشوارع الرئيسة في العاصمة كانت تعج بالمكتبات؛ وشارع "ابو نواس" يسهر حتى ساعات متأخرة من الليل، اضافة الى المحال والمطاعم التي يفتح كثير منها على مدار الساعة، وبعضها حتى الصبح، فضلاً عن مرافق اخرى لا غنى عنها للمجتمع الانساني السليم، يفتقر اليها العراق الآن بصورة مؤلمة؛ كل ذلك وغيره كان موجوداً ولا بأس من الحنين اليه، غير انه لم يكن كل شيء؛ ولربما وجدنا للعراقي العذر اذا حن الى ماضيه بالنظر الى توفر تلك الاشياء التي تعد في عرف الشعوب من البديهيات، وليست الامنيات التي تصل الى مستوى الاحلام التي باتت تؤرق العراقي ليلاً ونهاراً بسبب حرمانه منها الآن و جفاف حياته الراهنة وخلوها من جميع ما يدعو الى الفرح والتأمل و يحفز الابداع في العمل والفكر، وهو طبع عراقي كان متوفراً في عهود سابقة، جعلت الناس تحن الآن الى ايجابيات الحياة تلك، برغم انها كانت تفتقر ايضا الى جميع مقومات العيش المكتملة؛ فتركته برغم بعض محاسنها نهباً للقلاقل والحروب وانعدام الاستقرار.
باعتقادي ان العراقي يحن الى ماضيه مثلما يحن الانسان الى مسقط رأسه مهما كانت صورته، ومثلما يشتاق الى بيته القديم الذي نأى عنه؛ فيلتمس أي سبيل لزيارته او الالتفاف حوله والتمعن بجماله حتى لو كان مجرد بيت خرب!
والتساؤل المطروح بهذا الشأن، هو انه اذ كان الانسان يحن الى الماضي ويمتدح ايامه الدارسة و محاسنها، ويرى ان الحاضر اقسى منه، فلماذا يعجز عن استعادة سماته الايجابية، او انشاء حاضر افضل منه مثلما تفعل شعوب العالم التي تجترح المعجزات لتطوير حياتها واستباق الزمن في منجزاتها وتحقيق رخاء سكانها ، بل وخدمة المهاجرين الذين يأتون اليها ليعيشوا فيها؛ انها تنتقل في جميع المجالات من سيء الى احسن فالأحسن، فلماذا يظل العراقي من دون غيره يجتر صورة الماضي على انها تقدم له الجانب الايجابي بل المثالي بحسب ما يصرح به كثيرون، هل هي محاولة لجلد الذات عقاباً لها على اخفاقه في التواؤم مع طموحاته التي سعى الى تحقيقها اباؤه واجداده في العيش الكريم، فلم تتحقق لهم مثلما لم يستطع الجيل الحالي تحقيقها برغم امتلاكه ناصية الديمقراطية، التي لم يحسن ممارستها بانتخاب السياسيين الفاشلين ذاتهم في كل مرة.
ان تلميع صورة الماضي والتعبير عن الجزع من الحاضر واليأس من المستقبل سمات انهزامية بامتياز، ومن الواجب التخلي عنها، والعمل بالضد منها، لبناء حاضر سعيد تمهيداً لمستقبل افضل واكثر سعادة؛ اذ ان بإمكان الناس ان يتحكموا بمصيرهم، وان يبنوا ويحققوا السعادة لحاضرهم وضمان مستقبل اجيالهم المقبلة، مثلما بمقدورهم بكل سهولة ويسر ان يهدموا؛ غير ان الفيصل في كل الاحوال والظروف هي الارادة الحرة الواعية وحسن الاختيار، فهي الضمانة الوحيدة لحاضر بنّاء نلفظ به سلبيات الماضي، و نواصل خصاله الايجابية ونبني حاضراً زاهراً و نؤسس لمستقبل مضمون.
مقالات اخرى للكاتب