أصعب مهمة كانت تواجهني أيام الجيش هي الخفارة الليلة، وكم مرة حاولت التملص من هذا الواجب المزعج ولكن دون فائدة. فقد كان رئيس عرفاء الوحدة نايب ضابط مهدي عزار صارما في جدول الخفارات والواجبات الليلية ولا يقبل أي تقصير.
أتذكر آخر خفارة قضيتها في باب نظام مدرسة الدروع كانت برفقة نايب عريف سعدي جبارة. كانت ليلة من ليالي شتاء قضاء بيجي الباردة. رفيقي نايب العريف كان خدوما جدا وأنيسا جدا، يحب السوالف وببرع في القص والحكي. يساعده في ذلك وجهه الضاحك ووزنه الثقيل الذي لا يقوى معه على غير الحكي وثرد الكلام. خدّر لنا أبو سعود قوري شاي على الهيتر وصبّه في "شيشة معجون" فارغة لعدم وجود قدح في غرفة الحرس. تلفلف كل منا ببطانية جيش خشنة وأخذنا نرتشف من شيشة الشاي بالدور، رشفة لي ورشفة له، ثم بدأ صاحبي يسرد لي حكاية عمته فطم.
حدثني سعدي بن جبارة أن عمّته فطم أصابها يوما مسّ من الجن وصارت تهذي بكلام غير مفهوم، ما وضع العائلة كلها في انذار جيم لاسيما وأن فطم كانت مدللة أبيه الحاج جبارة. كانت شابة جميلة جدا وضعها أخوها موضع عناية واهتمام. لكنه كان ينوي تزويجها لابن عمها جبار الوصخ على حد وصف محدثي، سعدي. يقول ان عمته فطم لا ترغب بالزواج من جبار لأنه وصخ ورائحته نتنة ولم يكن على وفاق مع الليفة. ويقول أبو سعود أيضا أن عمته مرضت بسبب محاولات اجبارها على الزواج من ابن عمها جبار، بل أصبحت تهذي وتضرب على رأسها وتهدد بشق ثوبها والخروج عارية إلى الشارع. مسكينة عمتي فطم كانت حلوة وحبّابة وملسونة لوما هذا جبار الوصخ.
وكيف أصبحت عمتك الآن؟ أوووه بأحسن حال لأنها تزوجت من جارنا المعلم غازي "شلون شلون؟! سولفلي هاي بروح ابوك؟!" فأخذ سعدي رشفة من الشيشة وأردفها بمطقة تغري بشرب الشاي شششب طأ.. دورك.
بعدما هددت عمتي بشق ثيابها أمام الناس كتّفها والدي ولفلفها بعباءتها ووضعها في صندوق سيارته الڤولگا وأخذها الى سيد حردان أبو السحورة. قاطعته بقولي ومن يكون سيد حردان هذا؟ فأجاب وهو يشعل سيجارته الكيلوباترا: سيد حردان شخص معروف في قريتنا والقرى المجاورة، كان يكتب الأحراز والتعاويذ ويضحك على النساء بالسحر والكلاوات، ولكن الناس كانوا يحترمونه لحسبه ونسبه مع أنهم يعرفون حقيقته وأنه كان دجالا يضحك على عقول البسطاء.
حين أدخلنا عمتي فطم على سيد حردان قام بإشعال موقد نار أمامه ووضع فيه سيخا وهو يهمهم بكلمات غير مفهومة. ثم طردنا من الغرفة ليقوم بعمله مع عمتي فطم ويخرج الجن المتلبّس فيها. انتظرنا في الخارج على مضض ونحن نستمع لآهات عمتي وصرخاتها وهي تتلوى تحت سياط سيد حردان وسيخه المستعر. بعد ساعة من الصراخ والتأوه نادانا السيد ليقول "تعالوا بوية اخذوا بتكم طلع منها الجن.. صلوااات". غير أن السيد حردان قال لنا بأن الجن اشترط أن تمنعوا زواجها من شخص اسمه جابر أو جبار أو جبر أو جبير وإلا سيعود للتلبّس فيها مرة أخرى.
لقد خاف أبي عليها وعلى البيت كله لذلك فسخ خطوبتها من جبار الوصخ وزوجها لأول خاطب تقدم لها وهو المعلم غازي. لكن المفاجأة أن عمتي فطم أسرّتني في ليلة زفافها أنها تصنعت المرض للخلاص من جبار الوصخ ولم يكن هنالك جن ولا هم يحزنون. تقول عمتي ان سيد حردان سألها أن تكشف له الحقيقة مقابل أن يساعدها في حل مشكلتها. وعندما أمّنت له وحكت قصة حبّها مع غازي المعلم، اختلق السيد فلم الجن وشروطه بعدما طلب منها الصراخ والتأوه وهو يضرب الأرض بسوطه.. ألم أقل لك بأنه دجّال؟!
نعم دجّال سيد حردان.. دجال وكلاوچي، لا شك في ذلك لأنه يستغل البسطاء بكتابة الأحراز والتعاويذ والنفث في العقد، كما أنه يستخدم اسم جده لفرض جاهه وكلمته على أهل القرية، لكن كلاوات سيد حردان فيها نفع للناس "أحيانا" كتخليصه لعمتك فطم الحلوة من جبّار الوصخ. فلا تشتمه يا صاحبي، وإن كان لابد من شتيمة فاشتم من يركب الناس وهو بلا نفع ولا دفع. ششششب طأ.. دورك.
مقالات اخرى للكاتب
