قبل أعوام كنا نقرأ للسيد عبد الخالق حسين مقالاتاً قيّمة، يكتبها بموضوعية وحيادية أي عن قناعة وبإنصاف. أمّا الآن فلقد تغيّر للأسف أسلوبه القديم في الكتابة. ماهو سرّ هذا التحول الغريب يا ترى؟ ربما يعتقد هو الآن بأنّ الأسلوب القديم في التعامل مع السياسة أكل الدهر عليه وشرب. ولنوضح الآن السبب الكامن وراء كتابة هذه الأسطر.
نشر السيد عبد الخالق اليوم مقالا بعنوان: إصرار العراقيين على تدمير إنفسهم. في بداية المقال يحاول الكاتب تحليل وتوضيح السبب الأساسي للأزمة أو بالأحرى للصراع الدائر في دولة العراق ويعزوه الى طبيعة وعادة سكان العراق المشاكسة بخصوص العلاقة مع السلطة، ويعتقد بأن الدافع هو: العداء للديمقراطية، وبرأيه فان أهالي العراق قد تعّودوا على مخاصمة السلطة، حتي وان كانت مُنتخبة من قبل الأكثرية وتعمل وفقاً للدستور وتخدم مصلحة الشعب. ويُشير الى إعتقاد جهات كثيرة بتجسيد السبب الرئيسي للصراع المذكور في وجود شخص السيد نوري المالكي على رأس الحكومة، ويؤكد بان العلاج لا يتمثل في عدم بقاء السيد المالكي في هذا المنصب. لقد إعتقد العديد من المفكرين السابقين بفكرة "الحتمية البيئية" القائلة بان طبيعة بيئة ومناخ البلدان المختلفة تؤثر في سلوك سكانهم السياسي، ويُشير علم الجغرافية السياسية اليوم أيضاً بتأثير العوامل الجغرافية على السلوك السياسي للأنسان. وبالرغم من دور الشخصيات المحدود في النظم الديمقراطية فعلاً، إلاَ أنّ الحكم الرشيد له مميزات معينة ومنجزات جليّة وأثبت نجاحه قديماَ وحديثاً، وللشخصيات القائمة على رأسه دور وتأثير بارزين، على سبيل المثال لا الحصر: تأثير حكومتي السيدين مهاتير محمد (ماليزيا) و زايد بن سلطان آل نهيان (الأمارات) في ثمانينيات القرن الماضي ودور الشخصيتين المذكورتين فيهما. برأيي مشكلة العراق الأساسية تكمن في أساس بناء هذه الدولة (العراق الحديث) غير المتين، الذي أرساه ضباط "سياسيين" بريطانيين، والذي خلق أزمة الحكم غير الرشيد (غير المُتوازن وغير الكفوء) المزمنة فيها، وأدت الأزمة الى ترسيخ ثقافة العُنف السائدة في المجتمعات المُتعصبة قومياً والمتطرفة دينياً أومذهبياً، ومثل هذه الثقافة لاتوّلد طبعاً الاّ الموت والدمار أو بالأحرى سوى الأرهاب و "الأنفال" بحق الآخرين (من القوميات والأديان والمذاهب الأخرى). وتأثيرات هذه البيئة المسمومة فكرياً أشد وطأةّ عن تأثيرات العوامل الجغرافية على سلوك الأنسان (خاصة الأنسان غير الواعي)، فهي تُفني الحياة وتمحو الخير وتشوه الجمال، تارة بالسيوف الناحرة وتارة بالسيارات المفخخة أو بالأحزمة والعبوات الناسفة. فهي تنشر الشر باسم الجهاد الديني أو النضال القومي من أجل الأمة (الدينية أو القومية) وتمجد الأنتحار والقتل باسم الشهادة والجنة وتقدس فناء الآخرين بقناع التكفيروالتخوين.
على كل حال ينوه السيد عبدالخالق بعد ذلك وفي مستهل مقاله الى نسيان بعض الكتاب لعدم جدوى اللجوء الى الكذب والأفتراء ويشدّد على أهمية الدليل وإلاّ ستكون النتيجة إفلاساً فكرياً وسياسياً وأخلاقياً، ومن ثم يذكر إثنا عشرة أمثلة لتوضيح القصد. هنا أوّد الأشارة الى المثالين الخامس والتاسع. في المثال الخامس يدعي الكاتب: "تسعى حكومة الأقليم الكردستاني لأيقاف صادرات العراق النفطية بمقدار 500000 برميل يومياً وذلك عن طريق الأيعاز لمقاتلي حزب العمال الكردستاني PKK بتفجير الأنبوب النفطي الى تركيا، ويتسبب في خسائر مالية تقدر ب 16 مليار دولار سنوياً. وتستغل هذه الجريمة ليس فقط بالحاق الضرر بالعراق مالياً بل وإستغلالها ضد الحكومة المركزية بتشويه الحقائق وذلك بتضخيم الخسائر الى ثلاثة أضعاف بغية التحريض ضد الحكومة المركزية وإثارة النقمة عليها بتحميلها سبب هذه الخسائر والدكتور حسين الشهرستاني بالذات." ويستشهد للأستدلال على ذلك بتقرير لصحيفة المدى للكاتب ... التميمي حول الخسارة النفطية وزيادة عجز الميزانية بسبب تقديرات الشهرستاني! وكأن مقالا لأحد الصحفيين في إحدى صحف بغداد دليل على الأتهام الخطير الذي يوجهه لحكومة إقليم كوردستان. هنا نترك الشأن لحكومة إقليم كوردستان وممثلها في بغداد للتصرف إزاء هذا الأتهام الخطير، ولكننا نتسائل إذا كان السيد عبدالخالق حسين يعتقد فعلا بما كتبه؟ وأذا كان صادقاً في إدّعائه أو إتهامه هذا بصدد تآمر حكومة إقليم كوردستان وبالتواطئ مع الحزب العمال الكوردستاني، فما هو دليله؟ فهو يُطالب الكُتاب الآخرين بالدليل المادي الذي يُثبت قولهم وإلاّ ... بينما يُعفي نفسه منه. فهل يصح الكيل بمكيالين من أي كان وأينما كان. نحن لا ننعته هنا لا بالعنصرية ولا بالطائفية، ولكن أليس فقدان المصداقية أسوأ من الأثنين؟
أما فيما يتعلق بالنقطة التاسعة، فيقول السيد عبدالخالق: "العراق هو البلد الوحيد الذي يستطيع – فيه - رئيس حكومة الأقليم أن يطالب الحكومة المركزية بسحب قواتها العسكرية من المناطق المتنازع عليها، لكي تحتلها قوات البيشمركة. وتعبير (المناطق المُتنازع عليها) مصطلح جديد دخل القاموس السياسي العراقي، فحكومة الأقليم تتصرف وكانها دولة مستقلة لا جزء من العراق الفدرالي." هنا يتضح أمران، فأما يجهل السيد عبدالخالق حسين سبب خلق ما تُسمى ب"المناطق المُتنازع عليها" و من الذي خلقها ومتى، أو يتجاهل الأمر لسبب ما، يعرفه هو. فاذا كان يجهله باستطاعتنا أن نوضحه له ولكل الأخوة الأخرين: فهذه المناطق هي مُستقطعة من ما كانت تسمي ب"منطقة كوردستان للحكم الذاتي" من قبل النظام البعثي المُنهار، غصبا عن إرادة أكثرية سكانها الكورد، ورغماً عن كل الأدلة والحقائق التاريخية والجغرافية والأحصائية العراقية الرسمية (لماقبل تسلط البعث) التي تثبت هويتها الجغرافية الكوردستانية. وقد خلق النزاع عليها النظام البعثي في أربعة مراحل زمنية محددة. إذاً كان النزاع بين النظام البعثي المُستبدوالمغّفل والشعب الكوردي المظلوم والمؤنفل. وحكومة الأقليم لازالت تطالب بحماية الأمن والنظام أي أرواح وأموال وممتلكات جميع ساكنيها ومحاربة الأرهاب القاعدي-البعثي فيها وفقا للأتفاقات المُبرمة بين الطرفين في العراق الجديد، أي بصورة مشتركة وفعالة. وهل يُمكن تسمية ذلك إحتلالاً لأراضي مُستقطعة أصلاً من أراضي الأقليم من قبل البيشمركة أي حراس الأقليم دستورياً؟ أما السبب المهم لعدم انسجام بعض سياسات حكومة إقليم كوردستان مع سياسات "الحكومة المركزية" – كما يُسميها الكاتب، خاصة في مجال النفط، فهو المماطلة في صدور قانون النفط والغاز الأتحادي لحد الآن! إلاَ أنّ السبب الرئيسي للمشاكل المعلقة بين الحكومتين، هو عدم تحول دولة العراق الى دولة فيدرالية أي إتحادية لحد الآن- بالرغم من مرور حوالي عشر سنوات على سقوط النظام البعثي وتفكك أجهزتها القمعية والمركزية. هل يمكن تسمية دولة ما بفيدرالية، بوجود إقليم فيدرالي واحد و وحيد فيها، إضافة الى عرقلة تحديد حدودها الجنوبية والجنوبية الغربية لأكثر من عقد من الزمن. وهل يجوز أن تبقى بقية الدولة وتُحكم كدولة بسيطة مركزية؟ هناك إمكانية واحدة فقط لبقاء العراق كدولة واحدة مستقرة، وهي تحولها طوعياً الى دولة فيدرالية ديمقراطية. وهذا التحول بحاجة الى الأرادة الحرة والمستقلة أو بالأحرى الى تضامن واتحاد إختياري لجميع أهاليها، خاصة لمكوناتها الرئيسية الثلاثة. فلا يُمكن إعادة تأسيس عراق مركزي تحكمه فئة معينة من قومية واحدة أو مذهب واحد أو حزب قائد مطلقاً، وهذا الأمر حقيقة واضحة لكل المعنيين بأمور السياسة و شؤون الدولة.
مقالات اخرى للكاتب