في ملحمته "الحرب والسلام" يخبرنا تولستوي أن نابليون لم يصدر لشعبه بيانا واضحا ومحددا لما يجري لقواته في روسيا، ظلت الناس تنتظر بيان النصر فإذا بها تقرأ نهاية مأساوية لمغامرة حمقاء.. في كل مرة يكرر العسكر أخطاء من سبقوهم ويرتكبون افعال الغباء التي يقول عنها تولستوي إنها نتاج أناس لم يقرأوا التاريخ جيدا.. اعود بين الحين والآخر لملحمة تولستوي واقرأ ما كتبه يوما وهو يعلق على النقاد الذين قالوا عن رائعته إنها ليست رواية: "أنا اعلم ما هي خصائص الرواية.. واعرف الاشياء التي لا يجدها النقاد في كتابي.. لكنني اردت ان اقدم صورة لفظائع نعيشها كل يوم، الرق، امتهان الفقراء، اهانة النساء.. لقد حاولت ان اكتب تاريخا للشعب".
كان تولستوي في الثلاثينات من العمر، عندما كتب "الحرب والسلام"، في ذلك الحين كان يوزع ثروته على الفقراء، لكنه بالمقابل كان يكدس لتاريخ البشرية ثروات أكثر لمعاناً من كل كنوز الدنيا.. يقول بريشت إن تولستوي حاول في الرواية ان يعوض ما أهمله التاريخ.. أما ما الذي أهمله التاريخ فيخبرنا بريشت بانه الضعف البشري.. في الرواية يخبرنا الجنرال كوتوزوف أن "ثمة غموضا ازليا يرافق الحروب، وهو ان اكثر المعارك جرت باوامر من رجال يفتقرون الى الكثير من المعلومات لنصل الى النهاية ، الجنود البسطاء هم الذين يقتلون ويقاتلون، فيما الكبار يقرأون الخرائط ويصدرون الأوامر".
هل يذكرنا كلام تولستوي بشيء؟ بأحد ممن يعيشون حولنا؟ نعم يذكرنا بقادتنا الأمنيين الاشاوس ممن يريدون ان يفرضوا من خلال عملهم كثيرا من الخراب على حياة الناس معززين ثقافة الاستبداد والتسلط، يبددون الأمل ويحاصرون التفاؤل.
في ملحمته عن سقوط وغروب الإمبراطورية الرومانية، ذكرنا المؤرخ ادورد غيبسون بان الامبراطورية سقطت عندما سمح الشعب للحاكم ان يستبيح كل شيء باسم القانون، فاستعبد الناس في ظل شعارات الدفاع عن مجد الإمبراطورية.. وسقط نابليون حين اعتقد ان الحياة حق للكبار، اما البسطاء فحقهم في قبر كبير.. تسقط الدول من التاريخ حين يفتح حكامها باب الحروب والنعرات الطائفية، ويغلقون ابواب ونوافذ الحب والتسامح والطمأنينة.
يعلمنا تولستوي ان الانسان يتحول في ظل السلطة المطلقة الى إلى جزء من آلة، ينفذ من دون تفكير. يسير ويقوم وينام من دون نقاش. لا نهاره له ولا غده ملك لأبنائه.
يسأل تشيخوف معلمه تولستوي يوما: ترى هل كان يرتجل احيانا بعض المواقف في الحرب والسلام؟ ويبتسم الشيخ الثمانيني ليجيب نعم كنت ارتجل في مشاهد الحب وارتجف حين اكتب مشاهد الحرب.
في واحدة من اجمل صفحات الرواية يعلمنا تولستوي درسا بليغا في المحبة، "حين قفزت البنت الصغيرة فجأة على برميل لتكون أطول منه، عانقته بحيث التفت ذراعاها النحيلتان العاريتان فوق عنقه ورمت شعرها الى الخلف وقبلته على شفتيه.. في ذلك الحين كان بوريس سمجا لكن قبلة ناتاشا نفخت به الحياة فقال لها : نتاشا اتعلمين اني احبك ولكن، فقاطعته ناتاشا: تحبني، أجاب: اجل احبك ولكني ارجوك ان لانفعل هذا.. بعد اربع سنوات سأطلب يدك ففكرت ناتاشا، ثم راحت تعد على اصابعها الصغيرة النحيلة ثلاثة عشر، أربعة عشر، خمسة عشر، ستة عشر.. حسنا اذن اتفقنا، واضاءت وجهها ابتسامة فرح ورضا وأجاب بوريس: اتفقنا، قالت البنت الصغيرة : الى الابد؟ حتى الموت".
يعيشنا تولستوي في اجواء أبطاله لانه يعرف كيف يحضر رائحة وملمس امرأة مثل ناتاشا؟، وكيف يجعلنا نحبها ونغفر لها حتى خطاياها.
يكتب ماركيز: في كل نساء تولستوي ثمة حب يمكن أن يكون دليلا على الدهشة والتفرد، فقد كان الحب عنده مفتاحا للحياة، وعلينا دوما ان نطل من فوق كتف صانع المفاتيح لنعرف كيف تعاش الحياة بحق.
حين عصفت الأهواء بتولستوي أواخر أيام حياته انزوى جانبا ليكتب هذه السطور بأصابع مرتعشة: "على رصيف المحطة لمحت قوامه. عجباً، ما الذي جاء به إلى هنا؟ لم أكن أعلم أنك كنت على سفر. لماذا أنت هنا؟ سألته؟، قال وهو ينظر في عينيها: تعلمين أنني جئت في إثرك، فليس في وسعي تجنب ذلك".
نعم ليس بوسعنا تجنب الحب، لكن بوسعنا جميعا ان نقف في وجه من يريد لنا ان نعيد على مسامع الأجيال رواية "معركة المصير".
مقالات اخرى للكاتب