اليوم نحتاج وبقوه الى تسمية الاشياء بسمياتها التي اخفتها أو تحاول التضليل عليها القوى السياسية العراقية , ذلك يتطلب شجاعة التشخيص وجرأة القول , ليس من منطلق ابراز التفوق الذهني , ولكن خوفا من مأساة قد تكون الابشع لشعب توهم انه منقطع عن ارهاصات ماضيه , او محصنا من مؤثرات التغذية الفكرية الشاذة والمتطرفة , لقد اثبتت افرازات المرحلة القريبة التي صنعت ابجدياتها قوى التطرف السياسي ودفعت ثمنها الجموع الجماهيرية مزيدا من الدم والموت والتخلف على مستوى البناء الاجتماعي والخدمي وحتى الاخلاقي , وتداعيات صعبت التعايش السياسي السلمي للقوى السياسية العراقية , انعكس بشكل خطير على الحياة الاجتماعية للعراقيين بغض النظر عن انتماءاتاهم المذهبية والقومية , مرحلة صراع مذهبي وقومي واضح ومعلن برغم محاولات اخفاءه الواهية , وعلى الرغم من انها ليست المرة الاولى التي تتلاعب بها هذه القوى السياسية بمشاعرية المواطن من خلال تصدير العقد السياسية الى المشهد اليومي الجماهيري , لكن حقن المواطن وتعبئته طائفيا بهذا الكم من التوتر , يعتبر الاخطر وينذر بعواقب وخيمه ظهرت بعض ملامحها متجلية في العنف والعنف المضاد الذي يشهده الشارع العراقي مجتمعيا , ان بعض القوى السياسية تحاول بشكل معلن الى دفع المواطن لتبني مشاريعها الطائفية بعد فشلها في صناعة مشروع سياسي مدني منسجم , او بالأحرى عجزت عن بناء دولة المواطنة طبقا لآليات الديمقراطية , لتستمر في ممارسة سلوكياتها الحزبية المتطرفة عليه من اجل تحقيق مكاسبها السياسية , كما انها تتبع نهجا غير منضبطا وغير مسؤولا لتحويل المواطن الى درعها الرئيس للحماية في ازماتها , ازمة اقليم كردستان والمركز والمد والجزر الذي لعبت عليه القوى السياسية الكردية , والاعتصامات وما حملت من توجهات وشعارات ومظاهر مسلحة , وعمليات اختطاف واختطاف مقابل وكلها بمؤثرات سياسية اما مباشره او غير مباشرة , وخارج اللف والدوران السياسي وتزويق المواقف ورسم الصور الوردية , التي كشفت زيفها ايام الدم والانفجارات والعبث الامني الذي يدفع ثمنه المواطن العراقي , فهل فقدنا طريق العودة الى مشروع سياسي عراقي وطني موحد ؟ وامام هذا الاحتدام السياسي الشخصي والتفاوت الكبير في طريقة التفكير والتسابق لحصد المغانم الحزبية على حساب الوطن وانعدام لغة الحوار الجدي , بالاضافة الى عملياتها المبرمجة بعكس الصراع السياسي على الشارع ومحاولات حقنه طائفيا وقوميا وعرقيا واثنيا , وتغذية المشاريع الانقسامية والانفصالية وايقاظ الفتن والافكار البغيضة , فهل أصبح امكانية التعايش السياسي والاجتماعي السلمي مستحيلا ؟ تتحمل قوى تطرف الاسلام السياسي او تلك التي تدعي العلمانية بغلاف طائفي , المسؤولية الكبرى في ما آل اليه الواقع الاجتماعي وتطوراته السلبية بكل جوانبها , ذلك نتيجة استجابتها المطلقة للمشروع الامريكي الذي ارتكز على مبدا التقسيم الطائفي في عملية محاصصة بناء الدولة بجميع مفاصلها , والذي غذته تلك القوى من اجل الوصول الى مكاسب انتخابية واثبات وجود جماهيري , كما كان للفعل الاقليمي وتصفية الحسابات على ارض العراق اثرا بارزا دفع ثمنه الشعب العراقي من خلال الضخ المستمر للمجاميع الارهابية الوافدة والتي تزايدت اعدادها لتهيمن على القرار في مناطق غرب العراق او المناطق ذات المذهبية السنية ولتؤمن لنفسها حاضنة عمليات وعسكرة واستقطاب , ردة فعلها الطبيعية مع غياب سلطة الدولة هو نشوء المليشيات المسلحة في جنوب ووسط العراق او المناطق شيعية المذهب , ليختفي المشروع الوطني لبناء دولة مدنية ديمقراطية نظريا وعمليا , ولتستعد مكونات الدولة المجتمعية بأختلاف طوائفها ومذاهبها وقومياتها لتقبل هذه الكوبونات الجديدة شيعية وسنية وكردية ذات نفوذ وتركمانية منقسمة تحت مظلات القوى الاكبر ومسيحية و آيزيدية وصابئية مهاجرة قسرا خارج القرار , جريمة منظمة خاضها بعض من الشعب العراقي دون ان يدرك ابعادها المستقبلية ومؤثراتها , ازدواجية قبول الفعل ورفض اهدافه تمثل العلامة الفارقة لمجتمع تقبل البندقية في ما بين مكوناته وينادي بالوحدة الوطنية , ففي خضم الاقتتال الطائفي , الذي يؤسس حتما الى انقسامات عرقية او قومية او مذهبية كانت الجماهير المتقاتله ترفض فكرة الفدراليات الادارية التي تتبناها القوى السياسية المغذية الرئيسية لاقتتالها الطائفي وتسميها شكلا من التقسيم , كما انها كانت تصطف وراء شعارات تتناقض مع طبيعة الفعل الذي تقوم به الفئة المسلحة تجاه الاخرى فكلها تدعي على الاخرى الارتباط بأجندات خارجية , وجميعها تدعي العمل الوطني والمقاومة ضد المحتل , في حين تمارس القتل على الابرياء من المواطنين العراقيين , بجرائم لوثت تاريخ العراق الاجتماعي والسياسي , امام هكذا حقبة زمنية وهكذا دور لعبته القوى السياسية بشكل مفرط لتغذية المشروع الطائفي وهكذا استجابة مجتمعية سريعة دون ادنى مقاومة رفض حقيقية لدى الكثير من المواطنين بالذات اولئك الذين تبنوا الخطاب المتعسكر او شاركوا في حمل البندقية , امام كل هذا وبناءا على تطورات الوضع الاخير وتأزماته ارى اننا مجتمع مهيأ سلفا لانقسامات على اساس الهويات الفرعية , فطبيعتنا القومية وفكرة المصير الكردي هي من بناة الماضي واحلامه لدى النخبة السياسية الكردية ومتغلغلة بشكل عميق لدى المواطن الكردي بشكل منظور , اما المشهد السني العربي والشيعي العربي فان احداث الاشهر الستة الماضية تمثل مدقات الخطر الاكبر في بناءه المستقبلي الموحد , والتي قد تكلف العراق انهارا دموية تزيد على انهار العشرة سنوات الديمقراطية , لنجد العراق بمواجهة مصير انقسام محتوم بآلياته المفجعة لا رجعة فيه ومختوم بحبر الدم , ولتفادي هذا الشكل الدرامايتيكي لمصير بلد وضعته ظروفه في مواجهة نفسه اعتقد ان تنظيم هذه الظروف بشكل عقلاني تغلب فيه المصلحة الوطنية وتفكك عقد قياداته قبل عقد ظروفه , وتستحضر اليه تجارب شعوب اخرى مماثلة يمكن ان يكون الملاذ الاخير لبقاءه معافى .
الفدرالية حسنة النوايا مثلا على اساس مناطقي اداري تعتبر واحدا من هذه الخيارات للخروج من الازمة الخانقة , وتمنح المكونات المجتمعية حرية الحركة ويساهم في اخراجها من فكرة التبعية الطائفية , وبما ان بناء الدولة هيمنت على شكله ومضمونه آليات المحاصصة المريضة , فليتحاصص الشعب مناطقيا مادام مهيأ طائفيا لذلك , بعد فشله في تعايش مناطقي موحد , لم يستطيع تحقيقه خلال عشرة سنوات , برغم بعض المحاولات الدرامية من صلوات موحدة الى ولائم موحدة ما لبثت ان سحقها صوت البندقية على الطريق الدولي لعمان , والتي تبنتها للاسف الشديد بعض الشخصيات السياسية والحكومية المشاركة في العملية السياسية لتستكمل الصورة في بناء الدولة وعمليتها السياسية المريضة على انها دولة قطاع طرق , نتاجها اسبوع دامي جديد او شهر ادمى دفع ثمنه الابرياء من العراقيين كالعادة , لذا فان الحفاظ على المتبقي من كيان الدولة العراقية يحتم على الجميع مواجهة حقيقية لجميع عقدها , وليس هنالك ما يمنع من رعاية دولية لهذه المواجهة بعد تصدع محاولاتنا الداخلية في ايجاد مخرج على اساس الثقة بين القوى السياسية , على ان تثبت بشكل معلن وتتوضح صورة البناء الجديد للدولة العراقية من الناحية الادارية والسياسية والاستراتيجية , تحدد فيه الصلاحيات والحقوق والواجبات , والامتيازات وتقاسم الثروة والسلطة بشكل واضح وقانوني وبأحتكام تام للدستور , خارج الاتفاقات الفردية وامتيازاتها الشخصية كاتفاق اربيل ومؤتمر طلباني الوطني المؤجل.
مقالات اخرى للكاتب