كان يتحدث عن المستوى الهابط الذي بلغته لغة التخاطب في وسائل التواصل الاجتماعي. قال إنها صارت ساحة مفتوحة للمعارك والسباب. وضرب مثلاً بأستاذ جامعي شتم زميلاً له، علنًا، ووصفه بأنه «ابن كلب». كان يتحدث وكنت أتأمل أقواله وأود لو عدت به إلى «ألف ليلة وليلة» ليقرأ معي حكاية الصائغ حسن البصري وما جاء فيها عن بهرام المجوسي. وكان هذا مجرمًا اشتهر بأنه يذبح مسلمًا في كل سنة. وقد هجاه أحد الشعراء بين البيتين:
هو الكلب وابن الكلب والكلب جدّه
ولا خير في كلب تناسل من كلبِ
أبديت له رأيي بأن الهجاء هنا للحيوان المسكين، إذ يُقارن بقاتل فظ. وهناك في الغرب من يحنو على الكلب وكأنه من أطفاله. هل سمعت إنجليزيًا يشتم شخصًا ويقول له يا ابن الكلب «صَن أوف ذا دوغ؟» لا بد وأن جمعيات الرفق بالحيوان ستتدخل لتطالب بالاعتذار من ذوي الأربع. لكن محدثي صحح لي قائلاً إنهم يستخدمون الشتيمة مع أنثى الكلب. وهي ترد في حوارات الأفلام. لكنها لا تستخدم في وسائل الإعلام. وحتى لو كتبها أحدهم فإنه لا قانون يمنع السباب في الصحف. وليس من المعهود أن يتدخل رقيب لحذف شتيمة من مقال لأحد الصحافيين الإنجليز. وقد يكون من حق الكاتب أن يشتم، وبالمقابل فإن من حق المشتوم مقاضاة الكاتب بتهمة السب والقذف.
لم تلجأ وزيرة العدل الفرنسية السابقة، رشيدة داتي، إلى المحاكم عندما شتمها الممثل جان روشفور، علنًا، في مقابلة نُشرت معه. لكن المجلة أبقت على الحرف الأول من العبارة النابية وحذفت الباقي ووضعت مكانه نقاطًا بعدد الحروف المحذوفة. ونظرًا لأنها شتيمة شائعة تجري على ألسنة العامة، لم يكن من الصعب على أي قارئ أن يتكهن بفحواها.
حاولت أن أتذكر سوابق لهذا الحذف فلم تسعفني الذاكرة. فمن يطالع الصحف الفرنسية على مدى سنوات، يجد فيها كل ما تشتهي النفس وما تعاف، مدائح مُستحقة وأوصافًا مقذعة ومحاورات وتعليقات ومناوشات بعضها فج، وأغلبها لذيذ. أما وضع طاقية الإخفاء على رأس مفردة أو عدد من المفردات وترك نقاط في مكانها، فأمر يبعث على التساؤل وقد يثير حفيظة القراء المؤمنين بحرية التعبير.
هذا نصف ما أود قوله. والنصف الثاني، وهو الأكثر إثارة للتأمل، أن جان روشفور، آخر النجوم المعمرين في السينما الفرنسية، خص بتلك الشتيمة رشيدة داتي، وزيرة العدل السابقة وعمدة الدائرة السابعة من باريس. لقد دعت القاطنين في دائرتها، وهو من بينهم، إلى حفل أقامته على شرفهم. لكن الممثل الكبير غاضب على حضرة العمدة رشيدة. والسبب هو أنها لم توجه الدعوة إلى بوابة العمارة التي يقيم فيها. وهو يقول إن البوابة «أم شجاعة». تعمل وتدفع الضرائب. وقد ربت خمسة أبناء، تمكن ثلاثة منهم من دخول معهد العلوم السياسية في باريس، إحدى أرقى كليات فرنسا وأصعبها في القبول.
ورشيدة داتي في ورطة. وهي لا تريد أن تخسر أصوات البوابين والبوابات في دائرتها. صحيح أنهم يقيمون في الطوابق الأرضية التي لا تدخلها الشمس لكن وزنهم الانتخابي لا يقل عن رؤساء الشركات والوزراء والوارثين الأثرياء الذين يشغلون الطوابق العليا. لهذا دافعت العمدة عن نفسها بالقول إن روشفور تلقى الدعوة للحفل لأنه فنان معروف، وهي لا تعرف بوابة عمارته، وحبذا لو أعطاها اسمها لتوجه لها دعوة مماثلة. هل يعقل أن تتكبر المهاجرة العربية الفقيرة على أبناء وبنات طبقتها بعد أن صارت وزيرة للعدل في فرنسا وحافظة أختام الجمهورية؟ ففي العام الماضي، شغلت رشيدة داتي أعمدة الصحف حين دعت بوابات العمارات، في دائرتها، إلى سهرة راقصة مع عشاء فاخر. ويبدو أن الديمقراطية الفرنسية لا تحرم تدليل الناخبين والناخبات والطبطبة على أصواتهم.
وعودة إلى العبارة التي بدأ بها الكلام، وإلى الشاعر ابن الرومي الذي عاش قبل عشرة قرون. لقد هجا أحدهم بقوله:
فأين منك الحياة قُلْ لي
يا كلب والكلب لا يقول؟
مقالات اخرى للكاتب