للمرة الأولى في عراق ما بعد الدكتاتورية يجري الحديث بصورة مكثفة عن البرنامج الحكومي، حيث حرصت الكتل السياسية على صياغة هذا البرنامج والاتفاق عليه قبل تشكيل الحكومة وتوزيع الحقائب الوزارية، وفي حكومة 2010 تركز الحديث حول (اتفاقية أربيل) وملابساتها وغموضها ولم يهتم أحد لبرنامج الحكومة ولم يتابع مجلس النواب أو اية جهة مختصة أخرى مدى تنفيذ البرنامج الحكومي من عدمه، أما اليوم فالوضع مختلف ونحن نعيش مرحلة فاصلة من تاريخ العراق وبالتالي ينبغي أن يكون المعيار الوحيد لتقويم عمل الحكومة خلال السنوات الأربع المقبلة هو البرنامج الحكومي الذي بموجبه صادق مجلس النواب (ممثل الشعب) على تكليف الدكتور حيدر العبادي.
كلمة (برنامج) لغوياً تعني خطة، جدول أعمال، منهجا، فلكل مشروع عمل ينبغي أن تكون ثمة خطة لتنفيذه لكي لا تُترك الأمور للصدفة بدون تنظيم، وأهمية وضع برنامج ثقافة مؤسساتية ينبغي
أن تسود في كل مفاصل الدولة
من أصغر وحدة إدارية وحتى
رئيس الوزراء، ويظل البرنامج الحكومي هو الاطار الشامل الذي ينظم عمل الدولة وليس الحكومة فقط خلال فترة زمنية محددة، وبهذا المسار قدم الدكتور حيدر العبادي برنامج حكومته للسنوات 2014 ـ 2018 ونال موافقة مجلس النواب ونأمل أن يتابع هذا المجلس وفعاليات المجتمع المدني مستوى تنفيذ البرنامج الحكومي، لا
أن يتم نسيان أو تناسي البرنامج الحكومي والاستغراق في أزمات سياسية وأمنية وخدمية.
ينطلق برنامج العبادي الحكومي من استيعاب نوعيتن من الخطط والإلتزامات تفرضهما طبيعة الظروف التي يعيشها العراق في الوقت الحاضر، هما آنية وستراتيجية، الأولى تعنى بمعالجة الأزمات التي نتجت عن احتلال عصابات "داعش" لأجزاء من البلاد وبروز مشكلات انسانية معقدة مثل قضية النازحين فضلاً عن مسؤولية الحكومة في استعادة المدن المغتصبة وعودة النازحين إليها، أما النوعية الستراتيجية فتمثل جوهر البرنامج الحكومي وغايته، وتشمل جميع الميادين الحيوية للسنوات الأربع المقبلة ويضعها خبراء ومختصون وتتبناها الحكومة بعد مناقشتها، وبالتالي تكون مسؤولة عن تنفيذها أمام مجلس النواب والشعب.
استقر البرنامج الحكومي للدكتور حيدر العبادي في (17) محور أساسي بعد صياغات ومناقشات كثيرة ومتشعبة من قبل الكتل السياسية، وهذه المحاور تجسد الأزمات التي يعاني منها العراق والتي ترشحت من مطالب الكتل السياسية، ويأتي في مقدمة هذه المحاور تفعيل اللامركزية
في المجالين الإداري والاقتصادي، ثم القيام بثورة إدارية لإعادة بناء مؤسسات الدولة كافة
وكان الأمثل أن يتم دمج المحورين الأول والثاني لأن كلاهما يحملان معنى إعادة بناء الدولة في المجالات الإدارية والاقتصادية. المحور الثالت مالي يتصل بزيادة إيرادات العراق المالية لتلبية احتياجاته خلال السنوات المقبلة، ومع المال يحضر الفساد وبالتالي لا بد من معالجة هذه الآفة في
محور خاص بها، ويستجيب البرنامج الحكومي لمطالب كتلة "اتحاد القوى الوطنية" في وضع محور خاص للتوازن الوطني
في توزيع المناصب. اما الإصلاح الاقتصادي فهو حاضر هنا
بقوة في عدة محاور أساسية، فضلا عن تنظيم العلاقة مع مجلس النواب وحصر السلاح بيد الدولة والالتزام بحقوق الإنسان والتأكيد على مرجعية الدستور في حل الخلافات كافة، والسياسة الخارجية.
المحاور الأساسية للبرنامج الحكومي فيها الكثير من التشابه والتداخل وكان من الممكن اختصارها الى النصف، كما إنها خلت من الإشارة الى الثقافة وحرية التعبير والمجتمع المدني وكل ما يتعلق بالبنية الفوقية للمجتمع العراقي، نقول ذلك رغم إقرارنا بحاجة البلاد الى إعادة بناء البنية التحتية للدولة العراقية، لكننا نأمل أن يتكفل الخبراء الذين سيضعون تفاصيل البرنامج الحكومي بمثل هذه القطاعات المهملة.
العمل الأهم بعد إقرار البرنامج الحكومي يتمثل في متابعة سلامة التنفيذ وأن لا تبتلع منظومة الفساد الأموال المخصصة لهذا البرنامج، وهذه مهمة مجلس النواب والمجتمع المدني والصحافة والإعلام والرقابة الشعبية.
لقد رحلت الحكومة السابقة ولم يسأل أحد ماذا حققت من برنامجها الحكومي، وحتى لو تم طُرح مثل هذا السؤال، فلا أحد يملك جواباً له بسبب حالة الطوارئ التي أعقبت بروز "داعش" واحتلالها لأجزاء من البلاد.
نأمل أن يظل المعيار الوحيد في تقويم حكومة العبادي كامنا في قدرتها على تنفيذ البرنامج الحكومي الذي ألزمت نفسها به، فنحن بحاجة الى حكومة برنامج لا حكومة زعامة.
مقالات اخرى للكاتب