كانت تسير مع امها ، بغنج الصبا وعنفوان الشباب … الخجل يعتريها عند سماعها كلمة اعجاب من يصادفهما من المعارف والاصدقاء .. هي لم تعد طفلة .. بل اصبحت امرأة ناطقة بالأنوثة ، وبقوة الشخصية وادراك الواقع الذي انضجته سنوات الوعي والدراسة … هي الان بنت 18 عاما .. يا له من عمر خطير لمن لم تتجذر سيرورته ويتمسك بعبق الاصالة .
قالت لوالدتها : ما لك يا امي ، أراك بعيدة عن وهج الحياة .. غير مكترثة بإطلالتك .. تخرجين الى الشارع ، وكأنك داخل البيت .. انت لست التي اعرفها … غادرت الربيع ، وانت في قمة ربيعك .. هل لأنني اصبحتُ فتاة بعمر لافت للأخرين … واخذت صبابتي من ألقك المعهود .. لقد تعلمت منك يا اماه ان الاقبال على الحياة ، اعظم الحريات واقدس الامنيات .. فأجابتها امها : لا ابنتي … لكن الزمن الذي نعيش ، غير الزمن الذي كنا نعيشه .. كان الفرح الطفولي والشبابي يلازمنا ، ويمازحنا ، ويدغدغنا في كل لحظة ، واليوم نعيش لحظات الخوف من مجهول شرس ، ومن نظرات لا ترحم ، نابعة من عمى البصر والبصيرة ..
لم تفهم الفتاة بلاغة كلام امها ، فقالت مستفهمة : لكن الزمن يتقدم يا والدتي ؟
اجابتها امها : نعم ، لكن يا ابنتي ، ظاهر الاشياء لا يعكس باطنها وجوهرها … وحينما نعود الى البيت ، سأريك شواهد من كلامي .. وفي العودة ، واثناء المساء ، سحبت الام بحضور والدها ألبوما من الصور … تذكرت الفتاة ان صور هذا الالبوم شاهدتها اكثر من مرة ، لكنها لم تدرك معاني تلك الصور … شاهدت وانعمت النظر في صور والدتها في ايام الكلية وفي اجواء النقاء الانساني .. لمست الاخوة والحرية المتزنة من خلال الحفلات الجامعية ، والاختلاط المجتمعي الراقي بين الطلبة والطالبات وحفلات التخرج ، ومناسبات انتخاب ملكة جمال الكليات ، وشاهدت حفلات نوادي المنصور والمهندسين والهندية والعلوية ، وغيرها من النوادي الاجتماعية ، والسفرات الى جزيرة ” ام الخنازير” على ضفاف نهر دجلة ، ومتنزهات ” قناة الجيش ” وبحيرة الحبانية ومدينتها السياحية الجميلة وبحيرة الثرثار ، وبحيرة ساوة في مدينة السماوة وبحيرة الرزازة في كربلاء ، ومنطقة الصدور في ديالى ، وملوية سامراء ، و شلالات نواعير حديثة ، ومنطقة المدائن، حيث طاق كسر ،وحدائق ” بارك السعدون ” ببغداد ، وجزيرة ” السندباد ” في البصرة ، لاحظت الصبية صور والدتها وابيها وهما يجلسان في كافيه اول مول شهده الشرق الاوسط ( اورزدي باك ) وفي مقصورات سينمات الخيام والنصر وغرناطة.. شاهدت الحبور والفرح في حدائق الامة داخل ساحة التحرير، ونافورات المياه في حدائق الاعظمية ، ولمست كيف تصفق امها بحرارة وهي تجلس في حفل يحييه عبد الحليم حافظ في بغداد … انعمت بصور التقطتها عدسة ابيها لمقهى ” البرازيلية” المزودة بمكائن القهوة الجاهزة (ألأكسبريس) يوم لم تعرفها القاهرة ودبي ، ولشوارع : الرشيد والسعدون والكرادة ايام البهاء والحبور ، وخلوها من الباعة الجوالين ، والمتسولين .. انتبهت الى اناقة الرجال والنساء والشباب ، واحترامهم لمناطق العبور في الشوارع ، وخلو الساحات والتقاطعات من التجاوزات ، ونظافة حافلات نقل الركاب ، وغير ذلك من مظاهر المدنية المفتقدة !
دخل الاب على الخط ، محدثا ابنته .. كل الذي شاهدتيه من صور الدعة التي كنا نعيش في سنوات ستينيات وسبعينيات القرن المنصرم ، كان بسبب الحرية المجتمعية وعلاقات صلة الدم والجيرة واحترام الاخرين … ليس مثل واقع حالنا الآن حيث يرفع الانسان المنفلت شعار الحرية الشخصية ضد جميع الإجراءات الأخلاقية والأعراف المرعية … كانت الحرية في زماننا هي حق الفرد في أن يفعل كل ما لا يضر بالآخرين والحرية تنتهي حيث تبدأ حقوق الآخرين ، كما ان الحرية هي قرين الحق، فهما متلازمان ، وكنا نتنازل عن جزء من حقوقنا الشخصية في مقابل عدم حرمان الآخرين من حقوقهم ، لكن هذا التنازل الجزئي ، ليس تنازلًا بلا مقابل، بل من أجل ألا يفاجأ المرء في يوم من الأيام بأن الآخرين اعتدوا على حريته الشخصية، فهذا هو ثمن الحياة الاجتماعية المشتركة في ايامنا تلك .
سكتت الفتاة ..
ثم ، طبعت قبلة على جبينيّ امها وابيها ..وقالت : ما احلى ايامكما ، وما اتعس ايامنا !
مقالات اخرى للكاتب