على ظهر البارجة الحربية البريطانية المسماة نورث بروك، غادر فيصل الاول ميناء جدة في يوم 12 حزيران / يونيو1921 ليصل ميناء شط العرب، نهار يوم 23 حزيران، ثم ليغادر البصرة مواصلا رحلته إلى العاصمة بغداد.
اعتلى فيصل الأول عربة خاصة من عربات سكك حديد جنوب العراق في توجهه إلى بغداد، ولكنه لم يغفل وهو في مسار طريقه زيارة الكوفة عاصمة الدولة الإسلامية، ومن ثم النجف وكربلاء المقدستين لإتمام مراسم الزيارة إلى أئمة آل الرسول الأطهار، مارا بالحلة، لينتهي في بغداد وينّصب بعدها ملكا على عرش العراق.
ففي احتفال رسمي حضرته الحشود البغدادية، توج فيصل الأول ملكا على العراق. اذ تمت مراسم التتويج في فناء ديوان الحكومة/ القشلة يوم 23 آب/ أغسطس 1921. وكان من أولويات الملك، التعليم والارتقاء به، لبناء النهضة الحديثة في العراق. حيث زار الملك واحدة من مدارس بغداد، وسجل نفسه فيها آخذا لقب المعلم الأول، مؤكدا للأمة العراقية صدق سريرته، بأنه شخصيا من يمسك بإطار النهوض في هذه المملكة الحديثة العهد وخلق الإنسان المعاصر فيها.
لم تمض الأيام والأسابيع إلا وحل بأهل العراق العيد. فكانت المناسبة المفضلة ليلتقي الملك بأجنحة التعليم وهم الطلبة، وجاءت واحدة من ثانويات بغداد، ممن اختارها الملك فيصل ليلتقيها ويؤدي طلبتها مراسم التهنئة إلى مليكهم.
حدثني قبل أكثر من خمسة عقود، رجلا كبير السن، اعتلى منصب المعلم الأول في العراق قبل رحيله، معربا عن فرحته عندما استقبلهم الملك فيصل الأول في ديوانه بنفسه، وكان هو من بين نخبة طلبة الثانوية التي أدت زيارة البلاط الملكي وقتذاك، يقودهم مدير مدرستهم، فبعد أن صافح المدير الملك حيّا الطلبة ملكيهم جميعا بالسلام، وانتهت الزيارة التي دامت بضعة دقائق إلى مائدة فسيحة، وضعت عليها أنواع الحلوى ومن مذاقات مختلقة، بما فيه حلوى نادرة شائعة في ذلك الوقت كانت تسمى القلاطة العمانية!
ناهيك عن الحلوى العراقية، ولم تخل تلك المائدة من السكائر الإفرنجية وبالذات السيكار الارستقراطي الذي كان يطلق عليه جروت. قاد مرافق الملك فيصل الأول الطلبة إلى تلك المائدة، وفي كلمة مقتضبة له، دعاهم لتناول ما يشتهونه من مأكولات وضعت أمامهم شريطة أن لا يضعوا في جيوبهم شيء! بعدها غادر مرافق الملك مكان المائدة، واشبع الطلاب بطونهم لوحدهم، لكن بعضهم لم يأبه بالنصيحة التي دعا إليها مرافق الملك الأقدم، فبمجرد مغادرته، انقض البعض كالنسور الجوارح على علبتي سيكار كبيرتي الحجم، ليفرغوها من محتواها، الذي انتهى في جيوب البعض من جياع التدخين أو من لم يستطع شراء تلك اللفائف الغالية الثمن!
مات المعلم الأول، وظلت عينيه تبكي خجلا من تصرف أولئك الصبية، وارتكابهم حماقة، اختفت فيها آدابهم أمام مأدبة الملك الأول، كما اختفى حبر المعرفة من أقلامهم وهم يغادرون مائدة الملك، بجيوب اتخمت بلفائف السيكار الانجليزي، وهم يكملوا متعة عيدهم بأدب العبث اللامعقول على مائدة الملك!.
في مطلع الألفية الثانية، استقبلتني في بيت الحكمة ببغداد، وهو المكان الأثري الذي لم يبعد عن مكان تتويج الملك فيصل الأول إلا عشرات الأمتار، تلك السيدة الفاضلة وهي من سيدات العراق وعوائله العريقة التي تؤدي عملها حتى اللحظة في تطوير المعارف والحرص على هيبة بلاد الرافدين، مؤمنة أن دار الحكمة هي رمز المعرفة الوطنية، ومحطة علوم العراق في تقدم الإنسانية في القرن الراهن، كما كان عليه حال العراق في بعض قرونه الماضية. كان استقبالنا كجمع من مثقفي العراق من قبل تلك السيدة في حينها ، حدثا مهما في تاريخنا الشخصي، عندما أطلعتنا بنفسها على غرفة صغيرة شديدة الإحكام، خالية من كل شي إلا من طاولة مكتب سوداء الشكل، متواضعة الحجم، قديمة العهد، مزينة بقطع من مسامير برونزية اللون مغروزة على وجه الطاولة الأمامي، التي خلت من كرسي!، وقالت السيدة، إن البيت يحتفظ بهذه الطاولة الثمينة لقيمتها التاريخية. وتساءلت موجهة السؤال إلينا جميعا؟ أتدرون لمن تعود؟
قلنا لا؟ فأجابتنا بابتسامة هادئة مخلصة في مضمونها، إنها طاولة ملك العراق فيصل الأول. فزهونا وقتها بالعز والفخر، وقلنا إن بلادنا ما زالت تحتفظ برمزيات ملوكها حتى الآن، وان الفضل في ذلك هو لأولئك النبلاء من أهل العراق الذين مازالوا يحمون إرث البلاد من السراق.
هالني ما شاهدته من حرائق وتدمير وسلب جائر لممتلكات دار الحكمة وبيتها في أيار/ مايو 2003.عند مرت بها جيوش الاحتلال، دون ان تحرسها من سراق إرث العراق وممتلكاته، ولم أجدها إلا قاعا صفصفا. فقد مررت بها عسى أجدها قد نجت من الدمار، إلا أن أعمدة الدخان التي ظلت تقذف بسمومها من بين الأنقاض أجابتني بكلمات مظلمة خرساء، بأنه لا وجود لما تستفسر عنه!، باستثناء جوهرة ثمينة ساخنة لا تقدر بثمن هو دموع تلك السيدة الفاضلة التي انهمرت جهارا نهارا بغزارة على ما حل بهذه الدار من خراب في وضح النهار، وهي تقلب المستقبل أمام أكوام الرماد.
اصطف في الشارع المجاور لبيت الحكمة باعة المسروقات، ممن حصلوا عليها مما تبقى من الكتب والمخطوطات المنهوبة، وهي مطروحة بصورة عشوائية على الأرصفة الخلفية المجاورة للبيت نفسه، والتي يمكن شرائها بثمن بخس أو حتى مجانا، إنهم على عجالة لكسب رزقهم، وإن كان من رماد المعرفة! سألت بنفسي السيدة الفاضلة، وأنا أتحسر على ما جرى متذكرا طاولة الملك فيصل الأول وماذا حل بها؟ فقالت بحزن، ذهبت مع الريح، وان مصيرها، هو مصير من حرق ممتلكات هذه الدار بعد سلبها وتدميرها!
سألتني السيدة، وهي تتحسر بدمع ساخن كان أحر من الجمر، من يا ترى اهتم إلى هذا الحد بسرقة بيت الحكمة، ثم تعمد حرقه بهذه الهمجية التي لا هدنة فيها، حتى لدفن الموتى!؟، قلت لها، لا تستغربي، وأنا أتذكر بسري حكاية المعلم الأول في بلاط الملك الأول، إنهم بضعة من سلالة الطين، بعد أن لعب فيهم الشيطان ليجمعهم على غلق ينابيع الجنة، وفتح متاهات النار! قالت من هم؟، قلت لها، إنهم من سلالة أولئك الفتية الذين سرقوا سيكار الملك من على مائدة ضيافته في يوم عيدهم في عشرينيات القرن الماضي!، فهم أنفسهم من ابتلع طاولة الملك كلها عبر سرقتها هذه المرة، إن لم يحرقوها!
أعيد بناء بيت الحكمة مجددا بإخلاص منقطع النظير، ورجعت الدار ربما أجمل وأحلى من ذي قبل بأشراف الرجل الصالح، ولكنها ظلت خالية من طاولة الملك!
مقالات اخرى للكاتب