مخاوف أخذت تطفو على السطح من خلال سقف المطالب وحمى المحاصصات الحزبوية.. هذا ما ترشح الى الآن عن مارثون المفاوضات لتشكيل الحكومة العراقية الجديدة برئاسة الدكتور حيدر العبادي،.. والمتتبع لحركية الحوارات والتجاذبات بين القوى السياسية العراقية يلحظ جرياً وراء المصالح المحاصصية بمعزل عن الإصلاح البنيوي لجوهر الأزمات التي أوصلت العراق الى ما وصل إليه، وهنا تكمن الكارثة، كارثة الإصرار على إعادة خلق لعوامل الفشل التي جعلت من العملية السياسية عملية عقيمة المضمون والآفاق والحل طيلة العقد المنصرم.
ما لم تدرك القوى السياسية العراقية على تنوع أطيافها بأنَّ الأزمة في العراق أزمة بنيوية وأنها تحتاج الى إصلاح جذري وإرادة وطنية طهورية فإنَّ لحظة الإنقاذ التاريخية الراهنة ستموت في مهدها ويعاد انتاج الفشل وخولقته، وأتصور بأنَّ إعادة انتاج الفشل والإصرار عليه هذه المرة لن يبقي للدولة العراقية أثرا، وسيكتب التاريخ نهاية مفجعة للعراق كدولة تتحمل نتائجه القوى التي لم ترتق الى مسؤولياتها الوطنية التاريخية.
عوامل الفشل البنيوي للعملية السياسية العراقية تتصل بخمس أزمات متجذرة لا أمل معها بخلق النجاح بل ستكون الرائدة بخولقة الفشل المرة تلو المرة، تتمثل الأزمات المنتجة للفشل بـ: أزمة المعيار، وأزمة السلطة، وأزمة الإبتلاع، وأزمة المرجعية، وأزمة النخبة،.. وجميع بنى الدولة المجتمعية والإقتصادية والسيادية تتوقف على مديات حل وحلحلة هذه الأزمات، وهي أزمات تأسيسية بحاجة لإصلاح لا أن تعتمد كأسس لإصلاح سياسي!! وبالمطلق، فإنّ أي إصلاح لا يمكن أخذه مأخذ الجد كمحاولة للخروج من مأزق تأسيس وادارة الدولة إذا لم يتعاطى وهذه الأزمات على أساس من تغييرها.
أولاً: أزمة المعيار
هناك اصرار لإعتماد معيار دولة المكونات من خلال الإصرار على اعتماد معيار التوافق العرقطائفي كأساس لإنتاج الدولة، ومشكلة التوافق العرقطائفي تكمن بتضحيتها بمبدأ المواطنة لحساب مبدأ المكوّن العرقطائفي، وتضحيتها باستحقاق الديمقراطية (الأغلبية السياسية الصانعة للقرار) لحساب مطبخ التوافق، وكونها تحول دون الإندماج السياسي الوطني لمكونات الدولة لأنها تؤسس الإعتراف القانوني والمصلحة الوطنية على أساس فكرة المكون. وهذه البنى الثلاث تضحي بوحدة فعل الدولة ووحدة قرارها ومؤسساتها ومجتمعها السياسي.
ثانياً: أزمة السلطة
الدولة التي لا تتوحد بسلطاتها هي مجمع دويلات متناشزة.. وهذا هو حال دولتنا اليوم، وهناك إصرار على اعتماد هذا المعيار استناداً لمبدأ انقسام السلطة على حساب تقاسمهاعن طريق الركون الى التحاصص الطائفي والعرقي والحزبي، وهو ما يحول دون وحدة كيان الدولة ووحدة سلطاتها. المحاصصة فيما لو كانت سياسية صرفة فلا ضير فيها كونها ستؤدي إلى شراكة سياسية لقوى سياسية منتخبة تتقاسم السلطة لإدارة الحكم، ولكن إذا ما اختزنت المحاصصة الروح والثقافة والمصلحة الطائفية والعرقية والجهوية فستقود إلى انقسام السلطة، وهو ما سيؤدي لتلاشي الدولة لحساب سلطات (دويلات عرقية طائفية) متكثرة في جسم الدولة الواحدة.
ثالثاً: أزمة الإبتلاع
أنتج نظام المحاصصة العرقطائفي أزمة ابتلاع الأحزاب العرقطائفية للدولة فنشأ لدينا دولة أحزاب لا أحزاب دولة. الدولة في عمقها كيان أُمّة، وحياديتها وأبوتها شرطان أساسيان لإستقلالية شخصيتها المعنوية والقانونية، وليس من حق الحزب الفائز انتخابياً ابتلاع الدولة من خلال نظام المحاصصة المستند الى مبدأ انقسام السلطة عرقطائفياً. ولعل تجربتنا العراقية هي الوحيدة التي اعتمدت المحاصصة الشاملة لجميع وزارات وهيئات ومؤسسات الدولة على أساس حزبوي عرقطائفي،.. وهذا ما أعنيه بابتلاع الأحزاب للدولة. إنّ الأحزاب السياسية من لوازم تشكيل النسيج السياسي للسلطة في الدولة الحديثة، على أساس أنَّ الحزب وحدة سياسية مدنية تستهدف إدارة السلطة (الحكم) على وفق برنامج سياسي محدد، وهنا فإنّ مساحة الحزب يجب أن تشتغل من خلال السلطة (الحكم) وليس من خلال الدولة (المؤسسات)، وأي تمدد لرقعة نشاط الأحزاب من الحكم الى الدولة سيقضي على الدولة بسبب ابتلاع الأحزاب لها.
رابعاً: أزمة المرجعية
ليس هناك من مرجعية حاسمة للخلافات والإجتهادات والخروقات العراقية العراقية، إنَّ نظامنا السياسي فاقد لمرجعية حاسمة على مستوى المعيار والمؤسسات. والحقيقة أنّ جوهر هذه الأزمة يتمثل بالبناء الدستوري للدولة وبسيادة المؤسسات المعبرة عنه، وهي مورد النزاع الحقيقي بين أطراف الأزمة ذاتها، وما لم تحسن القوى السياسية إدارة أزمة مرجعية الدستور ومؤسساته فلا يمكن التكهن بمسار العملية السياسية ومآلات الواقع العراقي بكل ملفاته العالقة.
على القوى السياسية أن تلحظ: أنّ الدستور هو الأساس الأول المنتج للهوية والنظام، وعلى وفق خطوطه ومرتسماته تتشكل الدولة،.. فهو ليس عقداً سياسياً تمليه قوى تريد العمل خارج نسق التأريخ والواقع، بقدر ما هو عقد سياسي - اجتماعي تتماهى فيه ومن خلاله رؤى وطموحات مجتمع الدولة،.. لذا فمن الخطأ شد الدستور لمناورات سياسية زمنية مصلحية لهذه القوة أو تلك،.. المطلوب العمل به كعقد وطني تضامني معبر عن الجميع ليصدق على الجميع.
خامساً: أزمة النخبة
تبنى الأمم والدول بنخب التأسيس ذات الوطنية الراسخة والطهورية الرفيعة، وللأسف فإنَّ العديد من نخب العملية السياسية هي نخب سلطة مأزومة الفكر والإنتماء والولاء والكفاءة، وقد برهنت بالتجربة عن كونها نخب صدفة ونخب أزمات ونخب مصالح شخصية أو فئوية ضيقة.
تحتاج الدولة تأسيساً وبقاءً الى نخب تأسيس وإدارة وطنية مدنية كفوءة وطهورية على مستوى فعل الدولة،.. والإصرار على نخب الصدفة أو نخب الأزمات أو نخب المصالح لإدراك الحل عملية عقيمة لا أمل معها بأي تغيير جوهري في مسارات الإنهيار الذي تعاني منه أمتنا العراقية ودولتنا المهددة.
أقول: إدراك الحل لأزمات العراق الراهنة مرهون بمعالجة هذه الأزمات الخمس، وعلى حكومة الدكتور العبادي إدراكها في خضم إعداد خارطة طريق لإنقاذ العراق من أزمته الوجودية هذه، وبخلافه سيكون أي حل مادة لفشل مخولق سيدفع العراق ضريبته هذه المرة احتراباً وانقساماً تتحمل مسؤوليته القوى الصانعة له.
مقالات اخرى للكاتب