قبل الدخول في هذا الموضوع الممل والمتكرر والذي لا ينتهي فيه أحد لجواب قطعي مقنع للجميع علينا أولا أن نجرد الدين من القدسية المزيفة حتى نتعامل معه كتجربة إنسانية قابلة للتقويم والقياس والنقد، بغير هذه الوسيلة نبقى ندور في دائرة المقدس والمنجس ولا خروج عن مفاهيم الدائرة المغلقة وكأن الحلال والحرام هو كل الدين، عندما نقول أن الدين تجربة فليس هذا الكلام أفتراض ولا تجني ولكنه واحد من العناوين التي سطرها النص الديني وقدمها لنا على أنها خلاصة تتعلق بالدين عند الفرد والأخر، فكل دين جديد أو قديم هو نتاج فهم بشري خاص قد يصيب العلة الأساسية من هدفية الدين أو لا، مثلا في النص التالي نجد معنى أن الدين تجربة ( بل قالوا إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مهتدون* وكذلك ما أرسلنا من قبلك في قرية من نذير إلا قال مترفوها إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مقتدون* قال أولو جئتكم بأهدى مما وجدتم عليه آباءكم قالوا إنا بما أرسلتم به كافرون).
لا ينكر أحد أن التجربة بمعناها العام هي تفسير للظاهرة من خلال التجسيد طبعا وفق رؤية، هذا هو التجريب بالعموم وعلى ضوء ذلك يمكن قياس أحقية وصحة التجربة أيضا بناء على نتائج تجربة أقدم أو أسبق في التيقن، النص السابق مثلا يكشف لنا هذه المعادلة حين يضع تجربتين بموضع المقارنة والقياس من خلال مقاربات على مفهوم مشترك، ليس هذا فقط حتى النص الديني ينسب هذه المقاربة لرب الدين حينما يخلص في سورة الكافرون إلى نفس النتيجة، (لكم دينكم ولي دين) فهو يسمي تجربة الأخر وفهمه وإدراكه بما فيها على أنها دين، لم يجرد التجربة البشرية من نفس المقياس فالكافر بالنص أعلاه يؤمن أن تجربته وإن أنكر الدين مثلا أو أنكر الديان وفقا لقياسه الذاتي أيضا صاحب دين أي صاحب أرتباط وتخصيص بفكرة ما.
النص الديني عندما يتعامل مع موارده وأحكامه على أنها مقدمة لشيء أكبر وأعظم للإنسان إنما يقول إن التجربة وحدها ستقودك للبرهان، حينما يرد النص بمقارنة أوضح لمعنى التجربة فإنه لا يقطع بالحقيقة الكاملة دون برهان لاحق، مثلا لو حللنا النص التالي إلى مفاهيم معرفية يمكننا أن نتلمس دقة التعبير عن معنى التجربة (وإنا أو إياكم لعلى هدى أو في ظلال مبين)، بالرغم من وثوق الداع هنا بتجربته إلا أنه يخوضها بناء على ما يمكن تحصيله منها إنسانيا، ليكون الجواب في النتيجة مبني على برهان، هذا البرهان واحد من أهم أركان الإيمان الديني ويسميه النص التبيان أو البرهان، فالتبيان منظومة معرفية تجريبية يستند فيها الداع ليس فقط لما في النص وحده من مفاهيم ورؤى وأفكار ، بل أكثر من ذلك ولكن أيضا من خلال الخوض في التجربة العملية لإثبات ما في النص من دلالة وعلة وسبب وهدف وغائية بعيدة، أنظر للنص التالي { بالبينات والزبر وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم ولعلهم يتفكرون }، فالبينة هي ما قامت التجربة العملية على وضوحها ودقتها في العمل لذا سميت بينة ويقال في القضاء والقانون (البينة على من أدعى).
هنا نصل لمفهوم نريد أن ننطلق منه إلى فهم الدين كمعطى معرفي أولا ومن ثم كتجربة لندخل مدخل العارف من حدود ما يطلبه الدين من الإنسان، إذن الدين مراحل تبدأ من الوعي بالوجود العام ثم الوعي الخاص ثم الوعي المخصص، طبعا الوعي العام يتبلور من خلال الوجود في الوجود والقدرة على التحسس، ويسمى الوعي البدائي وله مبعثين ذاتي وحولي وكلاهما يشاركان في بلورة الوعي الخاص بكونية الإنسان وعلاقته بما حوله، يبدأ الوعي الخاص وما يتبعه من وعي مخصص من الوعي العام أساسا والتجربة التي تراكم أساسيات المعرفة الذاتية، فلا وعي بدون تجربة ومن ضمن التجربة التعلم والتعليم والإحساس والإدراك وكلها تصب في قناة الفهم البسيط ليتطور إلى الفهم المركب.
عندما يصل الإنسان للفهم المركب والذي يمنحه القدرة ليس فقط المعرفة المجردة، بل يتعدى ذلك لأبعد منها وأعمق وأكثر تشعبا، يبدأ الفهم المركب أولا بالشك والفرز والتصنيف النوعي ثم الترتيب والربط والتركيب والأنتقال للتصفيف القيمي ليصل إلى القدرة على التقرير ومن ثم الأنتاج والتوزيع، هذه العملية لا تأت من خلال التلقي فقط بل لا بد لها من تجربة على الواقع وفي الواقع وداخل المنظومة العقلية، عندما يكون الفهم مركبا يمكن له أن يتعاط مع المعرفة عموما والمعرفة الدينة تعاط مجرب أو تجربة قابلة للفهم وللتطوير والإثراء، هنا يأت الوعي المتخصص، ببساطة يبدأ الوعي المتخصص في أفق وخط محدد وبأتجاه مركز مع تنامي مفهوم الفهم عند الإنسان وبدرجات تتبع إنشغالات الفرد الأساسية ومنها الدين.
السؤال الأكثر عقلانية والأكثر جدية والمطروح بإلحاح اليوم هو، هل أن الدين تجربة لا بد للإنسان من أن يخوض بها وفيها وفقا للواقع ومتطلباته العملية، أم أنه قدر حتمي لا بد أن نستجيب له بما يحمل من هالة قدسية؟، الأجابة وحدها ولوحدها ستكون المفتاح الأول لحل الكثير من الإشكاليات التأريخية وربما تنجح في فك الرباط المفروض والمفترض بين المقدس والضرورة، وبين المقدس والوجود الإنساني بمعنى أن الإنسان هو سر المقدس وعلته بعيدا عن الفصل ما بين العلة والمعلول، من يرى أن الدين ظاهرة مقدسة حتمية وأوجب وأحق أن يقدم عليه أن ينظر لقيمة هذا المقدم بعدم وجود الإنسان أصلا.
المعطيات المنطقية والعقل المتحرر من وهم التقديس ينظر للمسألة من زاوية الواجب والأوجب، ويقدم حقيقة أن المعرفة بكل أنواعها ومن ضمنها الدين تشترك بخصيصتين، الأولى التجريبية في فالعلة والمصلحة في الغاية، كل معرفة إن لم تكن خاضعة للتجربة تبقى وهما ومجرد أفكار خيالية تعيش في ذاته ولا ترتق لكونية الضرورة والحاجة والقدرة على البقاء لأنها بلا علة، والحقيقة الثانية أن أي معرفة بلا هدف مجرد عبث وأعتباط وجودي لا ضرورة منه وبالتالي مصيره الفناء، الدين يملك الخصيصتين معا وبدرجات عالية من اليقين والتأكد، من ناحية التجريب شرحنا أنها حقيقة عاشها الإنسان بطول وعرض وجوده منتفعا ومنتكسا منها، والخصيصة الثانية أن وجود الدفع المعنوي والروحي الذي يساهم في تيسير الحياة أيضا كتجربة ناجحة في الوجود يعتمد على الدين كمعرفة.
مقالات اخرى للكاتب