في المبحث السابق تكلمنا عن علاقة الدين بالوعي وذكرنا أن الوعي الناتج من الفهم المركب هو الأكثر قدرة على تجسيد ضرورة أو عدم ضرورة الدين والإقتناع بها على سبيل اليقين، بهذه النقطة سنكون أمام أستحقاقين مهمين، الأول في قضية تشابك الإيمان مع الحرية وأيهما الأجدر بالتقديم ليكتشف الأخر الملازم، والثاني تفكيك الوعي الذاتي نحو معرفة ماهية الحرية والدين بمعنى الإيمان به ليكون خاضعا للتجريب، ما ينقصنا لتطبيق هذه الفكرة عامل ذاتي محض يتعلق بنا كبشر محكومين بعالم غيبي متسلط على الباطنية العقلية اللا قادرة على إنجاز التحدي مع بيئة ما زالت مستظلة بالقداسة، القداسة التي تمنحك خطوط حمر منغلقة على دوائر تتضايق كلما حاولت أن تتمرد عليها، هنا سيكون من الصعب التفكير بالحرية أصلا مع تنامي وعي معادي يجرك في كل مرة إلى نقطة البداية.
الحل يكمن في التساؤل التالي، لو تحرر العقل البشري من مقدمات الإيمان الحولية وترك وحيدا أمام ذاته الطبيعية هل سيختار الدين طريقا معرفيا؟، بمعنى أعمق لو جرد العقل من كل الإشارات التعليمية ومعطيات التبشير بالدين هل يؤمن بعد بلوغه مرحلة الفهم المركب بموضوعية الدين وضرورته؟، الأجابة الأفتراضية ستكون حسب مفهوم الفهم المركب عند العقل، فمن يؤمن بأن الفهم المركب هو أحاطة تامة وشمولية لكل مظاهر العلم والمعرفة عند ذاك سيكون بالتأكيد الجواب بالنفي، لأن العقل سيصطدم بالدين والإيمان كواحد من طبيعيات المعارف، والقراءة الأخرى التي تنظر لدور الفهم المركب على أعتباره أداة أمتحان ونقد وليس فقك أداة كشف سيجزم العقل بأحتمالية عالية بالجواب بنعم وبدون تردد.
نرجع مرة أخرى إلى دور العقل ومقدار ما يمتلك من طرائق للفحص والفرز والترتيب والتقدير، من المؤكد أن العقل الذي يتسع لمجال أوسع وأعظم من الأفتراضات هو العقل القادر على الوصول إلى عمق الإشكالية ومحاولة تفكيك الأطر الخارجية تمهيدا للوصول إلى الجوهر المعرفي والفكري، أما العقول محدودة الخيارات فسرعان ما تعلن أستسلامها للواقع وما فيه حتى لو كان مخالفا لبديهياته الأولى، فالعقل المستسلم عقل يسير في المعرفة لأقرب نهاية يمكن أن ترسم له يقين ولو كان وهميا وعلى الأقل مقبولا بلا فحص، هنا يكثر ويتكاثر الجهل ويتحول الفهم الطبيعي للمعرفة إلى فهم متسافل يرجع في كل مرة للمخزون في اللا شعور المتحجر أو المتراكم بلا تجديد، فإنه يخشى المصارحة مع الذات ويحذر من المجازفة حتى لو كانت ضرورية، السؤال هل هو الكسل العقلي أم أن طريقة تربية العقل جعلت هذه النتائج حتمية، من المؤكد أن الأول كنتيجة طبيعية لما في المنطق الثاني من أثار.
هل هناك أفق حل لهذه الإشكالية طالما أن الدين والمقدس الإيماني ما زال يشغل الكثير من واقعنا كنتاج وكإشكالية تداولية لم تنقطع، الصحيح كما يطرحه البعض هو منهجة العقل الإنساني نحو التعددية المعرفية أولا بمعنى أن يكون نطاقنا التفكيري في أكثر من أتجاه لتلافي التركيز على القضية الدينية، ثانيا والأهم من ذلك محاولة الخروج بالعقل من دائرة الممكن والمعقول الطبيعي إلى دائرة المتخيل الأفتراضي المستند إلى إشارات مركزها العلم التجريدي، عملية إعادة قولبة العقل وتجديد طرائق التفكير منهج ضروري وحتمي للمعالجة الأستراتيجية لحالة الغوص في المقدس الإيماني والدين لحد التيه فيهما.
الحل الأخر والذي يتبنى مسارا أخر هو خضوع هذا المقدس الإيماني وعموم المعرفة الدينية لعملية نقدية جريئة تحاول الفصل بين مسارات الفكرة الأساسية فيهما، فالدين ليس فقط عبادات وليس مجموعة قيم أخلاقية، ولا هو منهج حياتي يحتاج للتحديث والتطور مع تطور الحياة، الدين فيه مسارات متعددة تصب جميعا في فكرة جعل الإنسان كائن وجودي إيجابي من خلال ربطه بعالم أوسع، عالم يفترض أنه بالغ العظمة في فهم الوجود على أنه حالة دائمة تحتاج للحركة وتحتاج للتجديد، هنا يمكن للعقل المتمتع بفهم مركب أن يمارس العملية النقدية على نفس الأساس المتقدم من أننا جزء صغير من عالم أكبر، ولو أردنا أن نفهم وجودنا المحض علينا أن نفهم هذا الوجود بالحد الذي يمنحنا سعة في الرؤيا وتكامل مع الوجود بمعنى أننا لسنا الكمال في الفهم مهما بلغنا من المعرفة.
يمكننا من خلا المنهجين أن نكتشف عقم وسائلنا القديمة في فهم الوجود الذاتي وفي تفسير هذا الوجود أيضا عدى عن تبريره، للعقل المتفهم بمركبيته المتحررة سيكون هو العقل الوحيد الذي يمكنه بلورة رؤية أكثر منطقية للواقع وأجدر في دراسة حدود ما يجب أن يكون لتفكيك العلاقات المتشعبة والمشوشة بين الإنسان من جهة والعالم الواقي والعالم الأفتراضي وصولا للعالم الحقيقي الذي بقي مجهولا في العقل الإنساني على طول مسيرته في الوجود.
مقالات اخرى للكاتب