تتقافز الأرقام والأسماء في الأخبار الواردة من العراق ، وكأن المتلقي لها يحضر عرضاً مستمراً لـ ( سيرك ) فرق السلطات التي تقود البلاد منذُ عشرة أعوام ، أبطاله وجوقات المؤدين فيه يتناوبون على أدوارهم في تقديم العروض ( بكفاءة وأجتهاد ) لاستمرار مصالحهم على حساب مصلحة المواطن الذي أنتخبهم ، ودون تحسب للكوارث والطوارئ التي قد تتعرض لها البلاد المعتمدة على الاقتصاد الريعي ( وحيد المصدر ) ، كما يحدث الآن نتيجة انهيار أسعار النفط التي قادت سيناريوهاتها حكومة السعودية بالاتفاق مع كارتلات الصناعة العالمية التي تنسق معها الادارة الامريكية وتوابعها الاوربيون وأنظمة عربية وأقليمية تدور في فلكها ، بالتوافق مع ( ظاهرة داعش ) المصنعة من نفس الأطراف .
وأذا كانت بعض تلك الأرقام المتداولة بين العراقيين لاتستند الى وثائق لتأكيدها ، فأن الغالب منها والأكثر خطورة ومصداقية ، هو ما يعرضه ويتبناه أعضاء في اللجنة المالية لمجلس النواب العراقي ( سلطة التشريع والمراقبة ) ، ومن أخطر أمثلته ما أعلنته الدكتورة ( ماجدة التميمي ) عضوة اللجنة ، من أنها ( وضعت اليد ) على أكثر من (6 ) آلاف مشروع وهمي كلفت الدولة خسائر تتجاوز ( 228 ) مائتان وثمان وعشرون ترليون دينار عراقي ، فيما أعلن الناطق بأسم رئيس مجلس الوزراء العراقي اليوم ، مصادقة المجلس على ميزانية العام القادم البالغة ( 123 ) مائة وثلاثة وعشرون ترليون دينار عراقي ، وهو رقم يقل عن كلفة المشاريع الوهمية بمقدار ( 105 ) مائة وخمسة مليارات ترليون دينار عراقي .
اذا كان مفهوم المشروع الوهمي يعني ( مشروع على الورق فقط ) وليس له ( دلالات ) على الأرض ، فأن ما أعلنته الدكتورة التميمي يمثل أكبرفضائح الفساد للسلطات العراقية على مدى تأريخ العراق ، ليس لجهة حجم الأموال المبدده التي تجاوزت ميزانية البلاد بكثير ، رغم أهمية ذلك ، لكن لأن أسلوب تبديدها كان مشاريعاً وهمية ليس لها وجود على الأرض ، في بلدِ يتعرض المواطن فيه لصنوف العذاب خلال مراجعته لأية جهة حكومية للحصول على أبسط حقوقه ، وهي مفارقة سوداء كاحلة تضع المواطن في مواجهةِ أحزاب السلطة التي تقود البلاد ، للوصول الى تفسير يحترم العقل البشري على أقل تقدير .
الأسئلة كبيرة وعديدة في هذه الفضيحة ، وقد يكون أهمها تواقيع (المسؤولين الكبار ) على ملفات تلك المشاريع ، قبل تواقيع سلاسل الموظفين الأدنى ( المافيات ) المرتبطين بهم ، أولئك الذين أعتمدوا على ضوء أخضر (من الرؤوس الكبيرة ) لتمرير ملفات تلك المشاريع التي فاقت أقيامها ميزانية العراق ، دون وازع قانوني ، أذا تجاوزنا الوازع الأخلاقي والوطني الذي يتبجحون به في الاعلام بمناسبة وبدونها , ناهيك عن برامج أحزابهم ووثائق مؤتمراتها وأدبياتها السياسية المزدحمة بالوطنية وخدمة الشعب العراقي ، سواء منها المعلنة قبل سقوط الدكتاتورية أو التي جاءت بعد سقوطها .
الملفت في ملفات الفساد في العراق ، أنها شاملة لكل أحزاب السلطة دون تمييز ، وقد تكون حصص هؤلاء متباينة أعتماداً على مواقعهم وتقاسمهم لمواقع القرار الأكثر تأثيراً ، وهي بهذا التوصيف توصلنا الى قراءة لاتقبل الشك ، هي أن هؤلاء المتخاصمين والمتناحرين وقادة الصراع السياسي الذي دمر العراق منذ سقوط الدكتاتورية البغيضة ، الذين تحمل الشعب العراقي نتيجة خصوماتهم المستمرة ضرائباً دموية باهضة من خيرة أبنائه ومازال ، هم متضامنون في ملف المشاريع الوهمية التي أشرنا لها بأساليب ضمنت فائدتهم جميعاً ، رغم مخالفتها للقوانين العراقية ، وهذا مايفسر بقاء ملفات الفساد تحت الطاولات السياسية ، رغم مايتسرب منها للاعلام بين حين وآخر ، في استعراضات اعلامية لاتتجاوز المماحكات السياسية التي ( يأمر ) بها القادة بتوقيتات مدروسة ، مثلما ( يأمرون ) بتجاوزها بتواقيتات لاحقة .
لازالت وقائع الصراعات المفتعلة بين أطراف السلطة حول ميزانية العراق في العام 2014 ماثلة في أذهان العراقيين ، تلك التي تسببت بالكثير من الأذى للفقراء تحديداً ، خاصة في جانبي الخدمات والمنافع الاجتماعية ، نتيجة لعدم اقرارها في سابقة لم يشهدها اي بلد في العالم من قبل ، ودون أن يتسبب ذلك بأي أضرار بمنافع السياسيين ، فيما لازالت ميزانية عام 2015 دون اقرار قبل اسبوع من بدء العام الجديد ، لكن نفس الاطراف التي تتحكم في توقيت اقرار الميزانية لم تختلف فيمابينها طوال العشرة اعوام الماضية على تمرير المشاريع الوهمية المفردة والمشتركة بينها ، وكانت لصوصيتها متوازنة دائماً مع مصالحها دون ضجيج ولاصراعات ، فقط لأن مردود تلك المشاريع يصب في أرصدتها المالية المتضخمة في بنوك الجوار العراقي والعالم .
أكبر الأسئلة هو مايوجه للسلطة القضائية في العراق اليوم ، بأعتبارها آخر جدران الصد بوجه الفساد والفاسدين في صفوف الشعب وسلطاته ، ماهي الأجراءات القانونية المتخذة من قبلها على ضوء المعلومات التي أعلنت عنها الدكتورة ( ماجدة التميمي ) ، سواء لجهة محاسبة المسؤولين عن تبديد أموال الشعب في المشاريع الوهمية ، أو لجهة محاسبتها على تلك المعلومات الخطيرة في حالة عدم صحتها ؟ .
ومن الآن لحين تثبيت السلطات القضائية لبراءة أحد طرفي المعادلة أعلاه وادانة الآخر ، تكون مصداقيتها على المحك ، وهي في كلتا الحالتين أمام أختبار ننتظر نتائجه ليكون فاصلاً بين زمنين لايمكن أن تستقيم أوضاع العراق بدونه ، وأن لم يحدث ذلك فأن الكرة التي لازالت بعيدة عن ملعب الشعب ستستقر على أرضيته سواء قرر أن يسجل أهدافاً بها أو يبقى على المدرجات مكتفياً بالمشاهدة .
مقالات اخرى للكاتب