الحرب الاقتصادية
" إنك إن سيطرت على النفط تتحكم بالدول، وإن سيطرت على الغذاء تتحكم بالشعوب"
هنري كسينجر
من لم يقرأ التاريخ جيدا يقع في ذات الأخطاء التي وقع فيها غيره. فمن يتابع الصراع بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي ابان الحرب الباردة يجد ان الأميركان كانوا قد راهنوا على حسمه بخيار الحرب الاقتصادية وليس الحسم العسكري الذي كان يرعب العالم لمدة طويلة ، وكان سيدمرها فيما لو حصل ، لانه كان يعني حرب نووية تحرق اغلب بقاع العالم.
في عام 1988 أصدر الرئيس الأميركي الأسبق ريتشارد نيكسون كتابه الشهير " نصر بلا حرب" والمؤلف يصف كتابه في تعليقه الأخير قائلا «هو نتاج دراسة استغرقت عمرا بأكمله».
خلاصة الكتاب كانت تتحدث عن ان الولايات المتحدة تسعى الى تحقيق النصر على الاتحاد السوفيتي من خلال الحرب الاقتصادية وستنتصر عليه قريبا دون ان تطلق ولو إطلاقة واحدة ، وهو ما حدث عام 1989 فعلا.
هذه المقدمة تقودنا الى ما تحاول الولايات المتحدة نفسها عمله هذه المرة في العراق حاليا ، بعد ان فعلته ونجحت فيه خلال فترة الحصار الاقتصادي الذي فرض عليه بعد حرب الخليج الاولى في أعقاب غزو الكويت ، فحرب الاقتصاد هي الاداة الاسهل التي تضع البلد على طبق من ذهب بين يدي الغرب بقيادة الولايات المتحدة . لذا فان انهيار أسعار النفط وزيادة نسبة ضخه من دول تابعة للسياسة الاميركية وتدور في فلكها كالسعودية ودوّل الخليج الاخرى ، في نفس الوقت الذي انخفضت فيه هذه صادرات العراق بعد وقوع آبار نفطية بيد الجماعة الارهابية داعش من جهة وسيطرة الأكراد على نفط كركوك من جهة اخرى ، اذا ما علمنا ان اعتماد الاقتصاد العراقي على النفط يصل الى نسبة 90% ، جميع ذلك سوف يقود الى تحقيق ما يمكن تسميته سياسة الخنق الاقتصادي.
ان انخفاض أسعار النفط العالمية يؤثر كثيراً في العراق ووضعه في أزمة اقتصادية خانقة . هذه المعطيات تمهد لهذه الحرب التي هي وسيلة لهدف اكبر يتمثل بالسعي الى دفع البلد نحو الانهيار الشامل ، والمعطيات الآتية تتحدث بالادلة والارقام.
أعلن رئيس الوزراء العبادي قبل عدة أسابيع بأن واردات البلاد انخفضت بنسبة 60 بالمئة، وبين أن الحكومة تسعى لتقليل العجز الحاصل ضمن بنود موازنة العام 2016 .
المؤشرات الخطيرة تنبه الى أن مؤشر أسعار النفط سيواصل تدنيه وانحداره الي ما دون العشرين دولارا للبرميل الواحد بحلول العام القادم وذلك طبقا لما جاء في التوقعات الصادرة عن بعض المراكز البحثية الدولية المتخصصة في مجال الطاقة , وأنه لا أمل في أن تعاود أسعار النفط ارتفاعها من جديد قبل عام 2017 .
يقول كبير الباحثين في مركز بوكنجز وهو يلقي باللائمة على سوء استشراف المستقبل من قبل السياسيين العراقيين ، بقوله : " منذ العام 2003، اتخذ صناع السياسة العراقية النظرة المتفائلة – ستبقى أسعار النفط عالية وستحقق شركات النفط العالمية، التي وقّعت على عقود لتطوير حقول النفط الجنوبية الضخمة، أهدافها، أي حوالي 12 مليون برميل يومياً بحلول العام 2017. بات من الواضح الآن أنهم لم يروا الصعوبات التجارية والتقنية الخطيرة أمامهم أو أنهم أخفقوا في توقع نتائج السياسات الداخلية والديناميكيات الإقليمية".
نعم انها السياسات الفاشلة التي أنتجت دولة فاشلة نتيجة لعدم وجود قيادات ناجحة وبسبب المحاصصات السياسية والطائفية والعرقية اللعينة. كذلك ممارسات السرقة وعدم التوجه لبناء وطن تقطف فيه الأجيال القادمة ثمار الخطط الناجحة والتقديرات الصحيحة من خلال وضع استراتيجيات قصيرة ومتوسطة وطويلة الامد.
هذه المؤشرات نتائجها سوف تكون كارثية بكل المعايير , نحن بصدد زلزال اقتصادي كبير ربما يكون له من التأثيرات والمضاعفات ما لا يخطر الآن علي البال . والسؤال هو : بعد هذا كله ماذا سوف يبقي بعد أن تتعطل شرايين الحياة في البلد , وفي مقدمة ذلك عدم الإيفاء بمرتبات الموظفين ، وصعوبة إدامة ماكنة الحرب الواسعة ضد الارهاب الداعشي ، وتراجع الخدمات ، لا سيما بعد اطلاق بروتوكول قرض البنك الدولي للحكومة العراقية المتضمن منح العراق قرضا بقيمة مليار ومئتي مليون دولار، للمساعدة في ضبط أوضاع ماليته العامة وتحسين كفاءة قطاع الطاقة وتعويض انخفاض أسعار النفط وتصاعد التكاليف الأمنية ، هذا البروتوكول الذي تم اطلاقه الاسبوع الماضي نص على تفعيل تعرفة الكهرباء وايقاف التعيينات في الدولة لمدة 3 سنوات. ويتضمن البروتوكول سلسلة اجراءات يفرضها البنك الدولي على الحكومة العراقية طوال الاعوام 2015 و 2016 و 2017 من بينها اجراءات تقليل حرق الغاز المصاحب لغاية 2018، وموافقة مجلس الوزراء على تعرفة الكهرباء المقرة في مجلس الوزراء، وتنفيذها لتقليل الدعم وزيادة الايرادات. وتضمنت ايضا تجميد التعيينات في القطاع العام من خلال عدم منح درجات وظيفية جديدة لمدة 3 سنوات باستثناء القطاعات ذات الاولوية كالصحة، وضرورة اعادة هيكلة الشركات العامة، وتحسين البيئة التنافسية بين البنوك الحكومية، وتقليل الانفاق العام، من خلال تحسين كفاءة شبكة الحماية الاجتماعية واستبعاد غير المشمولين منها، وتصفية قاعدة المعلومات من المتقاعدين غير المؤهلين لاستلام الرواتب التقاعدية، وموافقة مجلس الوزراء على اطار عمليات اتخاذ القرار لادارة الاستثمار الحكومي التي تم اعدادها بالتنسيق بين وزارة التخطيط والبنك الدولي، واصدار امر من مجلس الوزراء بتجميد التعيينات في القطاع العام، وانشاء قسم لادارة الدين العام في وزارة المالية.
هذا البروتوكول يعني اقتطاع جزء جديد من سيادة العراق التي تقطعت إربا إربا في السنوات الاخيرة وخاصة بعد الاحتلال الداعشي لثلث أراضي البلاد.
عام 2016 سوف يكون صعبا للغاية على الاقتصاد العراقي ، فمن خلال تصريح احد النواب وهو عضو في اللجنة المالية في البرلمان تحدث فيه بلغة الأرقام ، حذر من ان الحكومة سوف لن تستطيع تغطية ثلث رواتب الموظفين للعام 2016 , ذلك ان سعربيع البرميل العراقي حاليا يبلغ 33 $ واذا ما استقطع منه سعر الاستخراج الذي يذهب الى الشركات زائدا حصة البترودولار للمحافظات التي تقع فيها الآبار النفطية فان المتبقي من سعر البرميل سيكون 10$ فقط.
هذا الكلام يعني موظفين بلا رواتب او رواتب تخفض يوما بعد آخر ، كما يعني صعوبة إدامة الآلة العسكرية ومن يديرها ، وتوقف مشاريع الاستثمار وتدني الخدمات وغير ذلك ، وبالتالي فهي حرب نفسية تثبط المعنويات من اجل تمرير مخططات التقسيم والرضوخ لها ، واستقطاع مزيدا من الاراضي ، وزيادة النقمة والامتعاض الشعبي ، وهو ما يهدف اليه الغرب ضمن الأدوات والوسائل الهادفة الى انهيار البلد ، والحرب الاقتصادية هي ليست الوحيدة المستخدمة في هذا الصدد ، بل تتزامن معها الأدوات والوسائل الاخرى التي تحدثنا عنها في الحلقات الست الماضية المنشورة في موقع كتابات منذ شهر نوفمبر 2013 .
ذروة الاثار السلبية لهذا الاختناق الاقتصادي المخطط له مسبقا ، سوف تظهر جليا في منتصف العام القادم وما بعده ، وهي ستتزامن مع التوقيتات التي نستقرأها ونستشرفها لقيام الغرب بقيادة الولايات المتحدة في تحقيق خطط التقسيم المزمع تنفيذها في العراق وسوريا ، وذلك بادخال قوات جديدة أميركية ( تصل الى 100000 الف شخص ) كما أعلن عنه الاسبوع الماضي ، اضافة الى قوات التحالف الاسلامي الجديد المشكل حديثا في الرياض .
مقالات اخرى للكاتب