في كلمة مقتضبة في وقت متأخر من الليل ، أعلن رئيس الوزراء السيد العبادي عن نيته في تشكيل حكومة كفاءات واختصاص ( تكنوقراط ) ، طالبا من الكتل السياسية الفاعلة على الساحة السياسية العراقية والأحزاب المنضوية تحتها بمساعدته وإعطائه الضوء الأخضر ، للشروع بتشكيل هذه الحكومة ، ومن ثم سافر في اليوم التالي لحضور مؤتمر ميونخ الاقتصادي في ألمانيا ، تاركا الشارع العراقي والمنظومة السياسية في حالة من التخبط وأثار من خلفه كم هائل من التساؤلات لم تجد لها جوابا غير بعض التكهنات التي تناقلتها وسائل الإعلام ، تحت عناوين ( تسريبات وتصريحات وتحليلات ) ، حول كيفية تشكيل هذه الحكومة وما الذي دعا السيد العبادي إلى اتخاذ هذا المنحى لحل الأزمة العراقية المستعصية ، والتي ذهبت اغلبها إلى أمرين .. الأول هو طلب أمريكي مباشر إليه لإحداث تغيير جذري وفعال لتغيير مسار العملية السياسية الكسيحة في العراق ، وإنقاذ ما يمكن إنقاذه بعدما أوشك العراق بكل ما لديه من ثروات على الإفلاس .. والأمر الثاني هو انسحاب المرجعية الدينية من الحياة السياسية ، وإلغائها للخطبة السياسية التي تمثل الشطر الثاني من خطبة الجمعة ، بعدما لمست عدم استجابة المسؤولين لنصائحها وطلباتها المتكررة في إحداث الإصلاح الحقيقي ومحاربة الفساد المالي والإداري المستشري في كل مفاصل الدولة العراقية .. وبغض النظر عن الأسباب التي دعت السيد العبادي لاتخاذ هذا القرار الخطير ، فأن الرأي العام العراقي ظل ينتظر لايام طويلة ما ستؤول إليه الأمور والنتائج المرجوة من هذا التغيير والية أحداثة ، في ظل سطوة الأحزاب والكتل النافذة في الساحة السياسية والتي يتمتع بعضها بحضور لا يستهان به في الشارع العراقي .
لكن لم يطل انتظار العراقيين طويلا للحصول على إجابات حول تساؤلاتهم ، فتحت قبة البرلمان أوضح السيد العبادي ما كان يصبو إليه ، من خلال فكه لحالة من الترابط المشيمي بين مصطلحين اعتاد على سماعهما الكثيرين هنا وهما ( المحاصصة والتوافق ) ، وبين ان الإصلاح سوف يأتي من تشكيل حكومة تنشأ من التوافق لتكون بديلا عن حكومة المحاصصة ، شارحا الفرق بين الاثنتين ، الأولى تشكل على أساس التوافق بين الكتل بغض النظر عن عدد الوزارات التي ستنالها هذه الكتلة أو تلك ، والثانية قائمة على عدد النقاط التي تمكن كل كتلة من امتلاكها لعدد من الوزارات .
هذا هو محور التغيير المنشود الذي كان ينتظره الشعب العراقي ، وسط هذا الكم الهائل من الفوضى والنكوص ، المحصلة هي حكومة تشكلها نفس الكتل والأحزاب التي ساهمت في كل هذا الخراب ، لكن هذه المرة يكون وزرائها من التكنو قراط وعلى أساس التوافق ، وهنا السؤال الذي يفرض نفسه على الجميع .. ما هو الفرق بين المحاصصة والتوافق ، كمصطلحين تلازما لأكثر من اثنتا عشر سنة في متوالية العملية السياسية العراقية ..؟.
الم تكن حكومة عام 2005 توافقية ، حتى إن بعض الكتل قد تسمت بهذا الاسم في إشارة إلى فرض نمطية سياسية جديدة في العراق يتم من خلالها الحصول على مكاسب هي أكثر من استحقاقها الانتخابي والسكاني ، وحكومة 2010 كان عمودها الفقري الذي تشكلت عليه عو مصطلح التوافق ، وورقة اربيل المبهمة المعالم والتفاصيل خير شاهد على ذلك .
المشكلة العراقية لا يمكن لشخص بمفرده أن يجد لها الحلول ، العراق الآن واقع ضمن مجال حيوي دولي وإقليمي ، وقراره السيادي لا يخضع له بصورة كلية ما لم يحدث توافق دولي إقليمي على تغيير الوضع القائم فيه ، لا أن يحدث توافق داخلي بين كتل وأحزاب هي نتاج لصراع قومي واثني أنتجته الفوضى التي حدثت بعد زوال الصنم بالطريقة التي إرادتها الولايات المتحدة الأمريكية ، فالإرادة الدولية والإقليمية هي وحدها قادرة على إيجاد بدائل داخلية تقوم بدعمها وإعطائها الضوء الأخضر للتحرك لإحداث أي تغيير منشود ، وان كل الحلول الداخلية المطروحة الآن ما هي إلا عملية تجميل لعملية سياسية مشوهة المعالم والتفاصيل .
مقالات اخرى للكاتب