المثقف العراقي لا يختلف بشيء عن أي مثقف آخر في بلدان تعاني من أزمة هوية، خصوصا إن صاحبت تلك الأزمة حكومات دكتاتورية وحروب "وطنية" وأخرى أهلية. أذ يبقى المثقف بهذه الحالة أسير سؤال وحيد، أكون مع من وضد من؟ وهذا السؤال الذي يبدو بسيطا للبعض يحتاج للأجابة عليه الى شجاعة من الصعب تخيلها لأن المثقف هنا أمام طريقين لا غير أحدهما يفضي الى السلطة وأمتيازاتها والآخر يفضي الى الاصطفاف مع من تقمعهم السلطة أي الشعب أيا كانت هذه السلطة.
في مثل الواقع العراقي اليوم حيث النزاع القومي بين العرب والكورد والطائفي بين الشيعة والسنة يقف الكثير من المثقفين العراقيين عاجزين عن تحديد وجهتهم أو بالاحرى بوصلتهم (ان لم يكن الكثير منهم قد أضاعها للأسف الشديد)، كونهم لا زالوا يعانون من فترة أبعادهم أو أبتعادهم وتهميشهم منذ نهاية سبعينيات القرن الماضي عندما غادر الكثير منهم الوطن تحت وطأة دكتاتورية البعث ليصابوا بالأحباط لطول فترة النفي القسري ان جاز التعبير، ليعودوا اليوم "وإن كان الكثير منهم لا يزالون يعيشون خارج البلد" محملّين برؤى وأفكار لا صلة لها بالمرّة مع واقع المشهد السياسي والثقافي والاجتماعي في البلد الذي هو على الضد من الثقافة ممارسةً وتطبيقاً . اما مثقفي الداخل فكانوا بين من انطوى على نفسه تاركا الثقافة كي لا يقترب من حدود السلطة وأمتيازاتها القذرة ليعيش بعيدا عن حقله الثقافي كي لا يتلوث بأوساخ السلطة حينها ومنحازا للجماهير وإن بصمت، وبين من لم يرى نفسه الا أسيرا لأملاءات السلطة وهؤلاء كانوا على قسمين اولهما كان من بطانة السلطة وخريج مدارسها ومنغمس في وحلها "العديد منهم من بطانة السلطة اليوم أيضا"، والاخر دفعته سنوات الحصار التي تلت الغزو العراقي للكويت بما حملته من معاناة أثرت عميقا في نفسية المواطن العراقي، الى ان يكون جزءا من الآلة الاعلامية والثقافية للسلطة وإن على كره بعد أن تحكمت السلطة بلقمة خبز الناس.
الديموقراطية تقف عند المثقفين الموالين للسلطة اليوم على رأسها لانهم يعتبرون الانتخابات هي اساس الديموقراطية بل جوهرها ولمّا كانت الانتخابات التشريعية والبلدية تجري كل أربع سنوات مرّة من دون الخوض هنا في طريقة أجرائها فالنظام عندهم ديموقراطي! لكنهم يتناسون ان الديموقراطية مفهوم واسع لطريقة الحكم والحياة والانتخابات ليست الا خطوة من خطوات الديموقراطية ذات الالف ميل وهذا المفهوم الواسع والشامل للديموقراطية يقودنا للبحث عن الطرق التي تهدينا في ان نجعل هذه الديموقراطية ان تقف على ارجلها كي تكون لها قاعدة استناد عريضة ومركز ثقل قوي قادر على حماية النظام الديموقراطي من الانقلاب عند المنعطفات الحادّة. وهذه نظرية فيزيائية تستخدم عادة في صناعة الحافلات ومركبات النقل العالية حيث نرى القاعدة واسعة ومنخفضة واوسع من قمة الحافلة او المركبة مع مركز ثقل قوي ومتين وقريب من الارض لحمايتها من الانقلاب لحدود كبيرة. وأذا أردنا أن نقارن الحالة الفيزيائية هذه بما يسمى بالنظام الديموقراطي العراقي اليوم فأننا بحاجة الى طبقة مثقفة لها قاعدة شعبية واسعة نتيجة قربها من هموم الناس ومنحازة اليهم وذات ثقل في الحياة السياسية والفكرية والاجتماعية، والناس هنا هم جماهير الشعب دون أي تمييز على أساس القومية والدين والطائفة، والمثقف هو مركز الثقل الذي عليه أن يكون بتماس يومي مع كل ما يفرزه الواقع السياسي وترجمته بنتاج ثقافي يتحدث بلغة مفهومة لشرائح واسعة من شعبنا تم تجهيلها منذ أكثر من ثلاثة عقود وليومنا هذا . فأين المثقف العراقي اليوم من هذا الوصف وما هي سمات الثقافة التي تعكسها السلطة أن كانت تملك مشروعا ثقافيا "لا نقصد هنا الثقافة الدينية الشيعية كونها لا تمثل كل ابناء الشعب العراقي" ولو لذرّ الرماد في العيون وهل هناك واقع ثقافي في البلد؟
الثقافة عبارة عن منتوج فكري متنوع وواسع ولا يقف عادة عند حدود معينة فكلما تطور الفكر البشري كلما تطورت الثقافة وحقولها المعرفية حالها حال حقول المعرفة الاخرى، كما وليس بالامكان تجزئة الثقافة بالمرّة كالقول مثلا أن علينا منع موسيقى الراب أوعدم الاهتمام بها لأننا مجتمع له عاداته وتقاليده الاسلامية، أو القول أن فن النحت أو الرسم يجب الغاؤهما كمادتين دراسيتين في معاهد وأكاديميات الفنون الجميلة لأن الاسلام حرّم النحت والرسم. والمثقف بأعتباره منتجا لهذه الثقافة عليه أن لا يتنازل مطلقا عن حقه الذي هو حق الشعب في دفاعه عن كل حقول الثقافة والمعرفة، لأنه لو تنازل في صراعه الدائم من أجل تكريس الديموقراطية عن أي حقل ثقافي أو معرفي، فأنه سيكون مجبرا لاحقا عن التنازل "للسلطة" عن حقوق ثقافية ومعرفية أخرى وبذلك سيكون من حيث يدري أو لا يدري جزءا من معاول هدم الديموقراطية وتحويلها الى سلطة أستبداد. ولو أخذنا فترة البعث "المنهار" فأننا سنرى المثقف العراقي "على الاقل مثقفي السلطة في الداخل" قد هيأ الأرضية المناسبة لدكتاتورية زعيم سادّي كصدام حسين الذي أختزل الثقافة العراقية بأكملها وكرّسها من خلال شعار "كل شيء من أجل المعركة" الى ثقافة عبادة الشخص الواحد وتأليهه لأن المعركة لم تكن الا شخصه ونرجسيته وساديته وعشقه لكرسي الحكم وإن كان على حساب مصلحة الشعب والوطن وهذا ما حصل فعلا في النهاية. وقد نجح في مسعاه لحدود كبيرة ليوصم عقدين كاملين تقريبا بثقافة تمجيد لشخصه وذل للمثقف وأنهيار للثقافة والمعرفة وقيمهما.
لكن الذي حدث بعد أنهيار نظام البعث وأحتلال البلد و "بناء" نظام "ديموقراطي" مشّوه على أساس طائفي قومي، هو أنهيار المنظومة الفكرية لأعداد كبيرة من المثقفين أو من المحسوبين عليهم وأنحيازهم الواضح الى الطائفة والقومية على حساب الشعب بأجمعه، لأن الثقافة ليست حصرا ولا ملكا لأية جهة قومية أو دينية أو طائفية فالنتاج الثقافي في أي بلد وفي أي زمان هو ملك للشعب وللبشرية جمعاء. لذا نرى المثقف الذي عليه ربط الواقع الثقافي بالواقع السياسي من دون أن يرضخ لأملاءات السلطة ومراكز النفوذ الاخرى التي تستمد قوتها منها "السلطة" أمام مهمة كبيرة جدا، وهي ليست نقده للسلطة والاوضاع الشاذّة الاخرى بالبلد فقط ، بل دفع اكبر عدد ممكن من الجماهير للخوض في هذا الصراع ، ومرّة أخرى ، فهذا الصراع يجب لا أن يجري على اساس الانتماء الديني أو الطائفي أو القومي ، بل على أساس الانتماء الوطني.
أن تحرير المثقف لنفسه من السلطة وأذرعها وأستمرار عطائه الثقافي الشامل من حيث التوجه سيجعله في النهاية في موقف قوي أمام السلطة كونه يمثل النخبة الفكرية، والمثقف يعرف جيدا أن السلطة دائما ما تكون بحاجة الى المثقف ، أما المثقف فلا حاجة له بالسلطة الا إذا اصبحت الثقافة مهنة ، حينها يشكل المثقف خطرا كبيرا على المجتمع والدولة ، كون المثقف حينها سيعتبر موظفا عليه تنفيذ الاوامر لا غير ويبدو حينها وهو قريب من مجلس السلطان كالآلة التي تتحرك بأشارة من هذا المسؤول أو ذاك.
لو راقبنا المشهد الثقافي العراقي وأهتمام السلطة به منذ الاحتلال ليومنا هذا وحكمنا عليه بحيادية تامّة فماذا ستكون النتيجة؟ لا أظن أن الامر بحاجة الى جهد كبير للأجابة على هذا السؤال ، فالثقافة بحقولها المختلفة بنظر السلطة رجس من عمل الشيطان علينا أجتنابه وأستبداله بثقافة السلطة، فمثلما ذابت الثقافة عهد البعثيين ودكتاتورهم بـ "كل شيء من أجل المعركة" نرى القوى الدينية المهيمنة على المشهد السياسي تعمل جاهدة على حصر الثقافة بنمط أنتاجي واحد وهو "ثقافة البكاء" فالمسرح والسينما يجب أن تحمل طابعا بكائيا، حتى وصل الامر بتمثيل مشاهد بكائية للأطفال في رياضهم ومنع نفس الاطفال من التمتع بمشاهدة عرض سيرك خاص بالاطفال ألغي في اللحظات الاخيرة بحجة أن الارض التي سيقام عليها السيرك ملكا للوقف الشيعي! بل وصل الامر بثقافة السلطة الى رفض مسؤول حزبي من القوى الاسلامية الدخول الى معهد للفنون الجميلة إذا لم يتم تغطية تمثال لأمرأة بعباءة! "داعشي قبل ظهور داعش بسنوات".
أمّا حقول الثقافة الاخرى فأنها أسوأ حالا من تلك التي تطرقنا اليها، فالفرقة السمفونية والفرقة القومية للفنون الشعبية وكل ما يتعلق بالفن أصبح في حكم المنتهي، والمثقف الذي يبرر عدم أيلاء السلطة أهتمامها بالثقافة ورموزها الذي يغادرون الحياة نتيجة الفقر والعوز أو في منافيهم متعللا بالاوضاع غير الطبيعية التي يمر بها البلد، فأنه يتنازل عن جزء من الديموقراطية والذي سيدفعه لاحقا للتنازل عن أجزاء أخرى وبذلك فأنه يعبّد الطريق لسلطة الفرد الواحد في أية منطقة جغرافية بالبلد وإن بآليات "ديموقراطية".
لا أعتقد أن في العراق اليوم مثقف عراقي الا بحدود ضيقة كون المثقف اليوم أصبح مثقفا شيعيا أوسنيّا أوكورديا، وبالتالي فأن العطاء الثقافي هو ليس عطاءا وطنيا قدر ما هو عطاء طائفي وقومي. وهؤلاء المثقفين لا يستطيعون التأثير الايجابي في الحياة السياسية "الوطنية" كونهم ليسوا بمثقفين مشغولين بالهمّ السياسي وأنما العكس ، وبالتالي فأنهم سيكونون جزءا من الآلة الدعائية الشيعية أوالسنية أوالكوردية، وبمعنى آخر فأنهم مثقفي محاصصة على غرار السلطة وهنا من حقنا أن نطرح عليهم السؤال التالي، ماذا جنى شعبنا ووطننا من هذه المحاصصة لليوم أيها السادة كي يكون لنا محاصصة ثقافية هذه المرّة؟
أن شعبنا اليوم بحاجة الى صوت المثقف أكثر من أي وقت مضى لأنه الساتر الاخير أمام طغيان الفساد والارهاب الذي يهدد أمنه ووحدة بلده، والمثقف اليوم أمام آخر أمتحان ليثبت لهذا الشعب وطنيته وأنه أهل لحمل هذه الامانة التي حملها قبله المثقفون في جميع بلدان الارض وخلال مختلف العصور ودفع الكثيرون منهم حياتهم في هذا الطريق الوعر والشائك والمقدس بنفس الوقت. أن الثقافة ليست سلعة تباع على قارعة الطريق أو في محفل السلطان بل هي عرق وجهد ملك للناس طالما يدونها المثقف على ورقة وتتحول الى نص مسرحي أو كلمات أغنية أو قصيدة شعر أو قصة أو رواية أو منشور أو مقال يقض مضاجع الطغاة "الديموقراطيين" بفضح ممارساتهم الطائفية وسرقاتهم وأستهتارهم بالبلد ووحدته والشعب وأمنه.
أن أنحراف المثقف نحو سلطة المحاصصة بجميع مكوناتها أشد خطرا على البلد من خطر الارهاب، كون آثار الارهاب من الممكن تجاوزها وبناء البلد وخصوصا في حالة العراق الغني ، بسنوات معدودات حال القضاء عليه "الارهاب". أما في حالة غياب الثقافة وأصطفاف المثقفين الى جانب طوائفهم وقومياتهم فسيكون بحاجة الى عقود لأن الثقافة تتعامل مع الانسان وعقله وروحه، وبناء الانسان هو أصعب أشكال البناء ويأخذ وقتا طويلا.
لا يُعبَد الله والشيطان بنفس الوقت الا في عراق المحاصصة
مقالات اخرى للكاتب