إليكم هذا الخبر .. (شهدت أنحاء مختلفة في الولايات المتحدة، وخصوصاً الجامعات، عشرات التظاهرات التي طالبت بالعدالة للشاب الأسود ”مايكل براون” الذي قتل بيد شرطي أبيض في أغسطس الفائت في مدينة فرجسون بولاية ميزوري، وأكدت مجموعة ”فرجستون اكشن” التي نظمت هذا التحرك رفضاً لقرار هيئة المحلفين في ميزوري الفائت عدم ملاحقة الشرطي الأبيض ”دارين ويلسون” الذي أطلق النار على براون، أن ”مجتمعاتنا تعرضت للإهانة وهي غاضبة. )
كل ذلك ليس بودي ان أقف عنده في هذه المقالة, لكن ما أريده هنا هو لفت الأنظار إلى أن الولايات المتحدة, وهي الدولة المدنية التي قطعت شوطا عظيما على صعيد محاربة العنصرية, ما زالت على المستوى الإجتماعي تعيش بدرجات معينة وبأشكال متفاوتة سلوكيات لا تخلو من العنصرية.
قبل عقود لا تتجاوز السبعة كان محرما على إنسان أسود الجلوس في باص للنقل العام ويترك رجلا أبيضا واقفا (قانون مونتغمري المعلن عام 1900), أما السيدة روزا باركر فقد رفضت في (1/12/1955) أن تخلي مقعدها للأبيض الواقف بجوارها وقد إستعملوا معها القوة لكنها ظلت تقاوم بشدة, وسرعان ما وجدت نفسها مدفوعة بعنف إلى خارج الباص لكي تثير بعدها عاصفة من التظاهرات السوداء المناوئة للتمييز والتي تكللت شيئا فشيئا بتشريع المزيد من القوانين التي تحرمه.
ويُحسب أن حركة مجابهة التمييز العنصري كانت تصاعدت بكثافة بعد ذلك اليوم. قبل ذلك التاريخ بفترة كان الأسود رقيقا وعبدا مسخرا للخدمة. ولقد جاء تحرير العبيد أولا بضغط من تداعيات التحول من الزراعة إلى الصناعة وحاجة النظام الصناعي إلى عمال بدلا من فلاحين أرقاء (الحرب بين الشمال الصناعي والجنوب الزراعي لم تكن بعيدة عن هذه الإشكالية "1861-1865")*.
أما المساواة فقد جاءت بضغط من التحولات الإجتماعية والثقافية المستمرة للمجتمع وقبل ذلك بتأثير من مواقف السود انفسهم ضد الممارسات العنصرية الأمر الذي دعا إلى تعديل القوانين وترسيخ الممارسات التي تكفل الوحدة والسلم الإجتماعي.
لكن أهم مشهد يمكن الوقوف عنده في حادثة ميزوري هو أن الدولة التي إستطاعت قانونيا وسياسيا نبذ كل أشكال التفرقة العنصرية وأتت برجل اسود للتربع على قمة مؤسستها الرئاسية ما زالت تعاني من هذه الثقافة على صعيد إجتماعي, فلم يتأكد لدينا حتى هذه اللحظة أن هناك وحدة وحالة إنسجام كاملة بين ما هو قانوني وسياسي وبين ما هو إجتماعي وثقافي.
مكون آخرمن مكونات المشهد عينه هو التظاهرات الكبيرة التي شهدتها معظم الولايات الأمريكية تعبيرا عن رفض إجتماعي واسع للجريمة وغطائها العنصري. هذا الأمر هو شبيه إلى حد ما مع كثير من التظاهرات والصدامات التي قام بها السود في ولايات عدة مثل نيويورك ولوس انجلس إحتجاجا على ممارسات عنصرية ضدهم والتي أدت إلى تشريع قوانين مساواة لصالحهم مثلما أدت إلى تعميق الثقافة المضادة للعنصرية. لكن هذا المشهد الأخير لا يخلو مما يجعله درسا جديرا بالإهتمام, فالتظاهرات الأخيرة إحتجاجا على العنصرية ضمت بين صفوفها الكثير من البيض أنفسهم بما يجعلها وقفة ضد العنصرية بشكل مبدئي وليست عبارة عن تضامن أبيض مع قضية السود. هذه الوقفة تذكرنا بالتظاهرة العظمى (1963) التي تقدمها مارتن لوثر كنغ وخطابه الشهير الذي صار أغنية لكل الأجيال وتصدرته عبارة (لدي حلم).
حلم مارتن لوثر كنغ لم يكن تأسيس فدرالية سوداء وأخرى بيضاء ولا دولة مكونات أمريكية مؤلفة على صعيد ديني من بروتستانت وكاثوليك ومورمان ويهود ومسلمين, وعلى صعيد عرقي من أنكلوساكسون وأفريقين سود وهنود حمر وهسبانك (واليوم فإن بإمكان هنود الهند أن يطالبوا بفدرالية هندية وكذلك بإمكان العراقيين في ديربورن أيضا, أما لاتينو أمريكا فسيكون من حقهم أن يطالبوا ربما بنصف مقاعد الكونغرس مع حصة مشابهة في مجلس الوزراء ), هؤلاء جميعا من حقهم أن تكون لهم فدراليات خاصة أو على الأقل كوتة بممثلين لهم في الكونغرس كما هي الحال في دولتنا العراقية المحترمة .. لكن مارتن لوثر كنغ لم يحلم بنظام المكونات لا على صعيد الوزارة ولا على صعيد الرئاسة أو الكونغرس او مجالس المحافظات. حلمه كان أن يحصل الجميع على حقوقهم ضمن الدولة العلمانية التي لا تفرق بين مواطنيها على أساس الدين أو المذهب أو العرق أو اللون.
نكاد الآن نقترب من الهدف .. لم تكن حال الدولة المدنية العراقية التي تأسست في بعد الحرب العالمية الأولى أسوء من حال الدولة الأمريكية في بداية الخمسينات يوم أُمِرَت سيدة سوداء ان تخلي مقعدها لرجل أبيض. كما أن لا مقارنة بين مظلومية السود أو الهنود الحمر وبين اية (مظلومية ) أخرى في مجتمعنا العراقي. والثابت ان ولاية كالفورنيا كانت قد خسرتها المكسيك لصالح أمريكا نتيجة للحرب المكسيكية الأمريكية حيث أصبحت الولاية الواحد وثلاثين وذلك في 9 سبتمبر 1850
أما ألاسكا فإشترتها أميركا من روسيا في عام 1867 مقابل 7.2 مليون دولار.
ولقد شنت أمريكا بقيادة الرئيس لينكولن حربها ضد جيش سبعة ولايات جنوبية اعلنت إنفصالها واعادها إلى حظيرة الدولة الوطنية.
وامريكا تزدحم بمشاهد من هذا النوع بما يجعلنا نقول أنها أيضا يمكن ان تكون مشروعا لدولة مكونات على الطريقة العراقية. لكن لا السود ولا الكاثوليك ولا المكسيكان ولا الهنود الحمر ناضلوا للحصول على حقوقهم من خلال دولة شبيهة بدولتنا الموقرة, بل نراهم جميعا, وفي المقدمة منهم السود كانوا جاهدوا من داخل الدولة الأمريكية المدنية لتحقيق الحلم اللوثري العتيد.
حين العودة للمشهد العراقي, ومقارنة بأمريكا نفسها التي جاءتنا بنظام المكونات والكوتات والمحاصصات الطائفية والعرقية, سوف تنعدم الحاجة إلى تأسيس نظرية سياسية على واقع طائفي او عرقي سابق. اما الدولة العلمانية الوطنية فستكون هي الأفضل إنسانيا. لذلك علينا أن نكف عن تبرير الحاجة إلى نظام المحاصصة ودولة المكونات على اساس وجود مشاهد عنصرية وطائفية سابقة.
وحينما يكتب للعراق المدني العلماني الموحد أن يعود إلى رشده فلا احد من حقه أن يتصور او يحلم بأنه سيكون خاليا من من اي مستوى للثقافة الطائفية أو للسلوك الفردي العنصري, لكن من الحق التأكيد على أن بإمكان عراق من هذا النوع حين يوفر اسس العدالة والمساواة القانونية والسياسية أن يطور ثقافة إجتماعية متناغمة مع ثقافة الدولة السياسية والقانونية.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* شن الحزب الجمهوري بقيادة الرئيس الأمريكي أبراهام لينكولن أثناء الانتخابات الرئاسية لعام 1860، حملة ضد توسيع العبودية خارج الولايات التي توجد بها بالفعل. أسفر فوز الجمهوريين في الانتخابات عن إعلان سبعة من ولايات الجنوب الانفصال عن الاتحاد حتى قبل تولى لينكولن منصبه يوم 4 مارس 1861. رفضت كلا من الإدارة السابقة والجديدة هذا الانفصال، واعتبرته حركة تمرد. (ويكيبيديا)
مقالات اخرى للكاتب