السيد مسعود البرزاني يتمتع باهم صفات القيادة وهي الوضوح والصراحة، فهو لا يتكلم بشكل مبهم ولا يسك مصطلحات فارغة مثلما يفعل غيره من السياسيين العراقيين. كلامه واضح وصريح لا يحتمل التأويل ولا اساءة الفهم.
ذلك ان الطموحات المشروعة للشعوب لا تتحقق بالمخططات التآمرية ولا في الظلام، انما في النور والعلن والصراحة.
فرئيس اقليم كوردستان عندما يصرح بان احتلال المسلحين لنينوى خلق عراقا اخر، فانه يؤكد حقيقة واقعه، يحاول سياسيو الصدفة تجاهلها وعدم الاقرار بها. اذ ان الحكومة الكوردستانية سيطرت على جميع المناطق المتنازع عليها، تلك التي كان على الحكومة العراقية حل النزاع حولها بالطرق القانونية ووفق المادة 140 التي تنصلت منها بذريعة نفاذ مدتها القانونية. انه يقصد ايضا بان لا انسحاب من هذه الاراضي ولا عودة لنفس طابع العلاقات بين الاقليم والمركز.
انه يعني ايضا بان دولة كوردستان المستقلة لم تعد حلما، لقد تعدت حدود الحلم الى الواقع واصبحت حقيقة لا ينقصها سوى الاعلان.
وهذا لا ضير فيه، فجميع العراقيين يعرفون بان ارتباط اقليم كوردستان بالعراق هو ارتباط مؤقت، تؤجل انفصاله العوامل الاقليمة وليس الظروف العراقية.
ان اي محاولة لابقاء كوردستان ضمن الدولة العراقية هي محاولة خرقاء حمقاء ستبوء بالفشل الذريع. والصحيح الذي يجب على العراقيين عمله هو مساعدة الشعب الكوردي على اعلان دولته المستقلة لتكون دولة صديقة وليس دولة معادية.
المسألة الكوردية لم تعد مشكلة تؤرق العراقيين، فقد اكتسبت تعاطفا واقرارا دوليا وانسانيا، كذلك اغلب العراقيين لا يوهمون انفسهم بان بالمستطاع اخضاع الشعب الكوردي بالقوة، فالقوة ستهزم في كل مكان امام تصميم الشعوب المقهورة. غير على الكوردستانين الحذر الى ابعد حدوده من تغلغل الوهابية في المجتمعات الكوردية، فهي جرثومة فساد المجتمعات.
ان المشكلة الحقيقة في العراق هي المشكلة الطائفية التي لم يجد السياسيون الامريكيون حلا لها سوى تطبيق النموذج اللبناني، متجاهلين بان النموذج اللبناني حتى في احسن مراحله، وهي تلك المراحل التي لم تتسرب بعد جرثومة الوهابية الى سياسته واحزابه، وقبل ان تستقر في مراتب المجتمع وطبقاته فتفسد السلم الاهلي وتثير النعرات الطائفية، كان يحمل عوامل فساده وتآكله معه. اذ ان نظام الطوائف يقضي على شعور المواطنة والانتماء للدولة، انه يخلق حالة من الاحساس الاناني الذي يحمل بذرة التناحر والعصيان بالانتماء الى الطائفة.
لو ان احزاب الاسلام السياسي العراقي لم تستلم السلطة، لو ان القاعدة التي تأسس عليها الدستور والقانون لا ترتكز على الدين ولا تفرد للمرجعيات مكانة خاصة تقترب من مرتبة التقديس، لو ان التعليم والاعلام ابتعد عن احياء سنن الاموات، لتمكن العراق وبكل هذه الثروة النفطية الهائلة بناء مجتمع مستقر وضمن حياة كريمة لكل للشعب، وسيكون قادرا على تطهير الشعب من كل جراثيم الوهابية الفكرية وايدلوجيات مذاهب التكفير.
المشكلة الحقيقة هي ما بين السنة وما بين الشيعة، مشكلة يعيش على تناحراتها الاف اللصوص والمزورين والمهربين وتجار الحروب ومقاولي الشركات الموهومة. مشكلة وسنكون سنضحك على انفسنا ان نحن همناها بان الشعب العراقي كتلة واحدة غير متشظية وغير منخورة بثقوب الصراعات الطائفية والمذهبية بعد ان غزت الوهابية البيوت والشوارع وحولت الجوامع الى امكنة لذبح القرابين البشرية وفتح بكارات النساء لاشباع الاله من الدماء المسفوكة.
الوهابية فرخت حقدا وبغضا يستمد اواره من اعتقادات التكفير ومن صراعات التاريخ ومن الاحكام المسبقة ومن اعتبار الهوية الطائفية هي اساس التعامل.
ان هذا الصراع التناحري الدموي، وهذه المذابح العلنية خلقت فجوة كبيرة تتسع يوميا بالتفجيرات والاغتيالات وعمليات التصفية والذبح العلني والقتل الطائفي المتبادل، وزادت هذه الفجوة تباعدا بفعل الاهمال الحكومي التام للشعب بشقيه الشيعي والسني.
وووجه المشكلة الايدلوجي الديني، هي ان رجال الدين السنة، الوهابيون على وجه الخصوص، لا يرتضون بحكم اي رجل محسوب على طائفة الشيعة حتى لو كان علمانيا. فهم يعتبرون الشيعة مشركين بـ الله، ويقولون بان الله والصيام وجميع الطقوس الاسلامية كانت موجودة قبل الاسلام وان كل الذي فعله محمد هو محاربة عبادة الاصنام ، اذ انه اعتبرها وجه للاشراك بالله، والشيعة يشركون بالله اذ يعبودوا آئمتهم الاثنى عشر ويزورون قبورهم.
فهيئة كبار العلماء في السعودية قد افتت بان لا تؤكل ذبائح الشيعة ولا يجوز مصاهرتهم ولا السلام عليهم ولا تهنئتهم بالاعياد والتضيق عليهم في الطرقات. كما ان الجامع الازهر اصدر قرارا بمقاطعة اي قاريء للقرآن سبق وان سجل آذانا شيعيا.
ان هذا النموذج السعودي الظلامي اصبح اسلوب معاملة السنة للشيعة في كل مكان تواجدت فيه الوهابية، فتصدير العنف الاسلامي هو سياسة الدولة السعودية بكل هيئاتها الحاكمة، وما مشاهد قتل الشيعي المصري حسن شحادة بتلك الصورة المغرقة بالهمجية والاندحار الانساني الا حالة تتكرر نماذجها باشكال مختلفة في كل الامكنة التي تحل فيها الوهابية.
ان المجازرالتي حدثت في الجزائر سابقا وما يحدث في سوريا وفي العراق الآن من اكل الاكباد وتقطيع الاثداء وذبح الاطفال واستعباد النساء واغتصابهن هو دلائل على مسخ الانسانية، المستغرب هو ان كتاب وصحفيون وشعراء وادباء يبررون اعمال التوحش البربرية ويغضون الطرف عن بشاعاتها ولا يترددون عن تسميتها بالثورات، ان نتاج هؤلاء هو ايضا نتاج مسخ.
لقد فرض الاسلوب الوهابي نفسه فكريا على الطائفة السنية العراقية المتدينة، اما غير المتدينة فقد كانت ضحية اتهام شيعي عام حسبها دون تمييز ودون استثناء على معسكر البعث، وهي تهمة تقترب من الاتهام بالميول النازية.
نشير ايضا الا ان الطبقة الدينية الشيعية في العراق، ورغم اختلاف درجات الرضا عن، والغضب على هذا السياسي او ذاك، الا انها لا تبدي اعتراضا عن ادعاء احزاب الاسلامي السياسي تمثيلها للطائفة الشيعية، انها حالة فريدة من نوعها في تشابك الدين مع السياسة والايدلوجية والطقوس في توليفة الحكم الجديد.
ونستطيع ان نعتبر فتوى الجهاد الكفائي التي اصدرتها مرجعية السستاني نموذجا ودليلا لهذا الرضا.
بينما الطبقة الدينية السنية غير راضية على الاحزاب السنية التي تدعي تمثيل السنة، فقد افتت المرجعيات السنية عدة مرات بوجوب مقاطعة الانتخابات وعدم الاشتراك بالعملية السياسة، وشنت حرب تحريضية طائفية على الحكومة. انها لا توافق اطلاقا ان يمثل الطائفة السنية حزب او تنظيم، فما الحكم الا لله وليس لله ظل اخر غير رجال الدين، كذلك ان الوهابية السعودية تقف ضد تأسيس اي حزب اسلامي او علماني، اذ انها تعتبره اساسا لزعزعة المجتمع والحكم وهو بذرة فساد يجب اقتلاعها.
من الصعب جدا انهاء المشاكل الدينية بالحوار والنقاشات والاتفاقات السياسية، فالصراع لا يمكن ان ينتهي الا بتقييد الدين بقوانين تقلل من تأثيراته الضارة وابعاده كليا عن المناهج المدرسية وعن الاعلام والخطاب السياسي.
بالطبع لا يمكن ذلك والاحزاب السياسية التي بيدها السلطة تصور الحرب ضد الارهاب هي حرب جند الحسين ضد جند يزيد. بل الاغرب ان السيد رئيس الوزراء المالكي قد استشهد بنفس الاية التي اعتاد الارهابيون على ترديدها وهم يشرعون في تعذيب وقتل والتمثيل بضحاياهم:ـ
(قاتلوهم يعذبهم الله بأيديكم ويخزهم وينصركم عليهم ويشف صدور قوم مؤمنين)
ثلاثة حلول لا بد منها لحل هذا النزاع الطائفي العراقي
الحكم العلماني ومنع اي حزب يتخذ من الاسلام او الدين اسما او ايدلوجيا او تبشيرا منهجا له وابعاد المرجعيات عن اي مشاركة بالسياسة.
او
انشاء اقاليم او كانتونات وفق الانتماءات المذهبية
او تقسيم العراق بين اطرافه المختلفة..
ان بقاء هذه الاوضاع دون حلول لا يعني دفع الاثمان الباهظة من الضحايا والثروات فقط، انما يعني زيادة العداء والاستمرار في الدوران في حلبة الموت والصراع الدموي دون نهاية.
مقالات اخرى للكاتب