من أخطر وأقسى شيء يواجههُ الأنسان في حياتهِ حينما يلفظهُ بلدهِ ولايعترف بوجودهِ على ألأطلاق.
ماذا سيقول هذا الشخص عن بلدهِ وعن عشيرتهِ وقومه وعائلتهِ التي ترفض ألأعتراف بهِ مع العلم أنه ينتمي الى هذه ألأرض بكل تفاصيلها وأجزائها.
أين يذهب ألأنسان حينما يجد أن أرضهِ لاتتسع لعذابهِ وألمهِ ومعاناتهِ ؟ تحدث في حركة الحياة أحاديث وحكايات يعجز العقل البشري عن إستيعابها ولكن هناك ألف لكن تتخلل تلك ألأحداث.
من أغرب القضايا التي صادفتني أثناء رحلاتي المكوكية بين وسائل ألأعلام المرئية والمكتوبة قضية الشاب المسكين الذي عاد من روسيا بعد غياب طويل ليعود الى بلده كي يحاول الحصول على – وثيقة جنسية – ترمز الى وجودهِ في هذه الحياة.
إسمهُ – معن دريد عبد الوهاب شاكر- غادر العراق حينما كان عمره 15 سنة الى روسيا بعد أن ماتت والدته بحادثة قتل. فقد كل أوراقة الثبوتية التي سافر بها . عاد بطريقة الترانزيت الى العراق وذهب الى عائلة والده وإذا به يتفاجأ من أن تلك العائلة ترفضه رفضا قاطعاً وتطلب منه عدم ألأدعاء بأنه يعود إليها.
حدث صراع بينه وبين تلك العائلة وراح يتوسل إليهم أن يعطوه رقم صحيفة وسجل كي يتمكن من إجراء معاملة رسمية للحصول على بدل ضائع لجنسيته المفقودة ومن ثم يسافر بلا رجعة. أخبروه بأنه ليس إبنهم وأنه إبن قصي صدام حسين.
عقدت الدهشة لسانه ولم يفهم عن أي شيء يتحدثون. راحوا يصرخون في الشارع بأنه إبن كذا وكذا وقد أجبرهم قصي صدام حسين على تسجيل إسمه بأسم إبنهم – د. ع. ش كانت هناك علاقة عائلية بين هذه العائلة وقصي صدام حسين كما ذكر في اللقاء الذي أجرته مع إحدى القنوات الفضائية. عاد بدون أوراق ثبوتية من روسيا . قال بأنه عاش هناك سبع سنوات بدون جنسية.
أعتقلتهُ القوات ألأمنية بتهمة عدم وجود وثائق تبوتية لديه لكنه مالبث أن أطلق سراحة.
كان جده معاون وزير ألأقتصاد ومن ثمَ أصبح وزير إقتصاد ومات عام 1968م. ساعده مدير شرطة الكرادة وأعطاه صورة قيد وأرسل معه شرطياً لأنه رأف بحالهِ.
كان يؤكد بأنه من سكنة بغداد وأن ولادته كانت في مستشفى الحيدري إضافة الى أن والدته جاءت الى الحياة في مستشفى الحيدري. لديه أصدقاء يزورنه هنا في هذا المكان وهو لديه ورقة ثبوت من أنه ينتمي الى هذه المنطقة.
منذ ثلاث سنوات وهو يسكن الشارع كمكان للعيش. يقول بأن عمره أصبح ثلاثين عاماً والعمر يجري ولايعرف كيف ستكون حياته. ذكر بأنه في إحدى الليالي كان واقفاً هنا في مكان سكناه في الشارع في الساعة الثانية ليلاً وتوقف معاون وزير الدفاع وسأله عن سر وجوده في هذا المكان وبعد أن شرح له حكايته المأساوية وعده بأنه سيساعده لكنه راح ولم يعد ونسيه كما نساه الزمن ملقى هناك يواجه قساوة الحياة.
يقول بأنه كلما أعطى معاملته لمعقبين لأخراج جنسية له يعودون اليه بعد يومين أو أكثر ويقولون له بأنهم يعتذرون عن عدم تمكنهم من إنجاز مايريده ولا أحد يقول له عن سبب ألأخفاق. ذكر بأنه يحتاج الى مساعدة الدولة العراقية للبت في هذه القضية ألأنسانية المروعة حقا. يحتاج الى رئيس الوزراء أو رئيس الجمهورية لمساعدته في طلبه البسيط الصعب جدا.
بين فترةٍ وأخرى يقف عند الشارع حائراً لايعرف ماذا يفعل؟ هو لايستطيع التنقل الى أي مكان خوفاً من السيطرات المنتشرة في كل مكان. سئم العيش في هذا السجن الكبير المفتوح.
العراق كله أصبح له سجناً رهيباً بلا أبواب ولا قضبان ولاحراس. هو السجان وهو السجين والشارع الطويل بكل أمتارة المترامية ألأطراف قضباناً له. يعرف ثلاث لغات بطلاقة لكنه يفترش الرصيف لوحده يتيماً بلا أب أو أم أو أقرباء أو جيران. ماذا يفعل؟
أناشد أي مسؤول كبير أن يسارع ألآن للبحث عن مكان هذا الشاب المسكين. إذا لم يحق له العيش كمواطن في العراق ساعدوه للرحيل الى مكان آخر من دول العالم كي يواصل حياته.
يقف أحياناً ينظر الى السماء ويصرخ بصوتٍ مكتوم لايسمعه إلا قلبه ” ياربي من أنا ؟ هل أنا إبن قصي صدام حسين كما يدعون أم أنا م.د.ع.ش؟ هل حقاً أن قصي إرتكب الفاحشة مع أمي وأجبر تلك العائلة أن أنتمي إليهم؟ ماذنبي أنا؟
لم أرتكب جريمة ..لم أسرق آبار نفط العراق ولم أسطو على مصرفٍ من مصارف العراق ولم أسب رئيس الوزراء ولا رئيس الجمهورية..هل سيساعدني العراق أم أنتهي قاتلاً لنفسي كي أتخلص من هذا العذاب؟” .
حينما شاهدت صورته وهو يجلس على كرسي تحت شجرة بائسة عند أحد شوارع بغداد وفراشه ألأسفنجي مطويٌ تحتها وشعره الطويل ونظارته التي تخفي تحتها عينان أذابهما الخوف والسهر الطويل ..شعرت أنني أموت معه في كل لحظة لأنه شابا من شباب العراق السابحين في آلامٍ لاتنتهي على مدار الشهور والسنين.
ساعدوه بالله عليكم قبل أن نجده يوماً ما جثة هامدة عند شارع من شوارع بغداد.
مقالات اخرى للكاتب