لقد بعث مجلس الوزراء ميزانية عام2015 بعد ضغط شكلي للنفقات الغير ضرورية، فعلى سبيل المثال، نجد أن ميزانيات نفقات الرئاسات الثلاثة تقريبا بقيت على ما هي عليه، ولنأخذ مثلا واحدا فقط لتبيان الفكرة. لعل الجميع يعرف أن لكل منهم جيشا من الحمايات التي تشكل بمجموعها جيشا جرارا أكثر من الحشد الشعبي أو المتطوعين من أبناء المحافظات التي اجتاحتها داعش، حيث يقال أن لكل رئيس400 فرد حماية! والحمد لله لدينا من الرؤساء ونوابهم ما يفوق مجموع رؤساء دول الشرق الأوسط مجتمعة، اضافة الى نواب البرلمان والوزراء ووكلائهم ورؤساء الهيئات المستقلة وأصحاب الدرجات الخاصة والمحافظين، وغيرهم كثيرون كالقضاة والمستشارين، وهكذا القائمة لا تنتهي.
لكن الأهم من كل تلك الحسابات هو أن هذه الميزانية قد وضعت، أو صممت بطريقة تسمح للابتزاز من مختلف الأطراف، وهذا ما نخشاه.
في هذه المقالة سأركز على نوع واحد من الابتزاز كنتيجة لتخصيص أموال لا يمكن الحصول عليها، والتزامات كبيرة جدا لا يمكن تحقيقها إلا إذا تم التجاوز على الحقوق، دون تحديد نوع الحقوق لحساسية الموضوع، وسأركز على رقمين فقط وردت في الميزانية ونناقشها من وجهة نظر مهنية صرف، حيث بهذه الحالة يجب أن نأخذ أسوأ الاحتمالات في حساباتنا كما تعلمنا في صفوف الدراسة. هذه الأرقام هي:
أولا- سعر النفط60 دولار غير منطقي:
لقد افترضت المزانية سعرا للنفط قدره60 دولارا، والسعر حاليا لنفط برينت، كونه نفط الإشارة بالنسبة للعراق، هو بحدود ال60 ودولار، أي أننا نبيع النفط بأقل من هذا السعر بحدود ثمانية دولارت، أكثر أو أقل بحسب نوع النفط ومحتوياته من شوائب وكذلك الجهة المشترية للنفط.
ما تقدم يعني أننا نبيع الآن النفط بأكثر قليلا من50 دولار للبرميل.
لقد تحدث بعض نواب البرلمان العراقي عن السبب باختيار هذا الرقم، فزعموا أن الخبراء يعتقدون أن الأسعار سترتفع إلى نطاق أعلى من60 في السنة القادمة!
لكنهم وللأسف الشديد لم يذكروا أسماء هؤلاء الخبراء، كما ولا نعرف ما هي حجتهم بأن السعر سيرتفع أعلى من نطاق الخمسين دولار التي نبيع بها نفطنا، لذا وجدت لزاما علي مناقشة الموضوع بمهنية.
لقد تحدث وزير النفط السعودي علي النعيمي في مقابلة له مع مجلة ميسMEES التي اجريت معه في21-12-2014 في أبو ظبي، يقول فيها إن المستهدف من هذا التخفيض بالأسعار هو المنتجين للنفط الغير تقليدي، والذين يستحوذون على الزيادات المفترضة في أسواق النفط، ولم يخفي حقيقة أن السعودية هي التي أغرقت الأسواق لتتسبب بهبوط الأسعار إلى هذا المستوى.
ذهبت السعودية لهذا الخيار لأن كلف إنتاج النفط الغير تقليدي تقع فيما بين40 و100 دولار للبرميل، وأن سعر النفط الغير تقليدي، خصوصا الثقيل منه وهو العموم الأغلب، يكون سعره عادة أقل بعشرة دولارات من سعر الإشارة برينت، لذا يجب تخفيض أسعار النفط لهذه المستويات.
من ناحية أخرى، إن الشركات المنتجة للنفط الغير تقليدي قد وظفت أموال طائلة لإنتاجه وليس سهلا عليها التخلي عن هذه الاستثمارات، وليس سهلا على البنوك العالمية التي تمول هذا الإنتاج التخلي عن استثماراتها وديونها أيضا، لذا ستبقى تصارع ولا تستسلم بالسهولة التي يتصورها البعض، فقد تنسحب مؤقتا، لكن سرعان ما تعود بعد أن ترتفع الأسعار ولو قليلا، لأنها لا تسحب منشآتها، أو تغلق آبارها نهائيا، أي أنها ستبقى تناور لإنقاذ أكبر قدر ممكن من استثماراتها.
لكن والحق يقال، أن عددا كبيرا من أبراج الحفر العاملة في هذا النوع التطوير قد انسحب، وأن أبراجا أخرى ستنسحب وقت انتهاء عقودها مع الشركات، وأن اسهم هذه الشركات قد هبطت بشكل مريع في وول ستريت، وأن البنوك التي تمول قد أوقفت أي تمويل جديد وستعيد النظر بالتوظيفات المالية المرصودة للسنوات العشر القادمة كما أوضحت النشريات الاقتصادية العالمية بحسب ال EIA.
وهذا يعني أن الأسعار سوف تستمر هابطة في العام القادم أيضا، لأن عملية طرد المنتجين للنفط الغير تقليدي ليست سهلة ولا سريعة، كما أسلفنا، فهي تحتاج إلى وقت قد يطول لسنتين أو ثلاثة، أي أنها عملية لا يستسلم لها هؤلاء المنتجين ومن ورائهم البنوك التي تورطت ومنحتهم رؤوس أموال طائلة، وأموال أخرى قد تم تخصيصها للعشر سنوات القادمة بحدود13 ترليون دولار لتطوير الاحتياطيات الغير تقليدية، فهذه الجهات لا تستسلم بالسهولة التي نتصورها، فهي ستبقى تبحث عن بدائل وردود، وقد تنجح بمسعاها أو لا تنجح، فالمعركة ما زالت في بدايتها ولم تنتهي بعد، وفي جميع الأحوال فإن هذا المؤشر يعني أن السنة القادمة، على أقل تقدير، ستكون فيها الأسعار بهذا المستوى أو أقل، وهذا ما أكده خبراء صندوق النقد الدولي يوم22-12-2014 نقلا عن وكالة رويتر، وقد صدرت بنفس السياق تحليلات أخرى مستقلة، لم أجد أيا منها متفائل بأن الأسعار سترتفع في السنة القادمة، بل على العكس تماما، قد تنهار الأسعار إلى ما دون هذا المستوى للتأكيد على إصرار السعودية التي غضت دول أوبك النظر عن مسعاها هذا ولم يصرح وزيرا منها بما يعارض أو يختلف معها بهذا الصدد.
باختصار لا يوجد خبيرا من خبراء النفط وأسواقه يعتقد بأن الأسعار سترتفع كما يزعم البعض من النواب المحترمين.
قد تكون غاية السعودية من تخفيض الأسعار سياسية أيضا، وهذا ممكن، فهي دائما ترمي أكثر من عصفور بحجر واحد، ويا له من حجر هذه المرة، فهو بحجم جبل، ونجد أن المتضرر الأكبر من هذا التخفيض هو روسيا الاتحادية، فقد تخسر أكثر من180 مليار دولار خلال العام القادم بسبب هذا التخفيض بسعر النفط فيما لو استمرت الأسعار بهذا المستوى أو أقل، لذا لم يخفِ السيناتور الأميركي جون ماكين، في مقابلة له مع الCNN ، فرحته بانهيار العملة الروسية والوضع السيّئ الذي يمر به الاقتصاد الروسي كنتيجة لإغراق الأسواق بالنفط السعودي، وقال أيضا علينا أن نشكر السعودية على ذلك، رغم أن الأخيرة تقول أن الأسباب هي اقتصادية بحتة وليست سياسية.
ففي كلا الحالتين، سواء كانت الأسباب سياسية أم اقتصادية فإن المؤشرات تؤكد أن السنة القادمة ستكون سنة عجاف على بعض المنتجين الرئيسيين وهم، إضافة إلى روسيا، العراق وإيران وفنزولا وعدد آخر قليل من المنتجين، وكل هذا لصالح الشعوب المستوردة للنفط، وحتى أمريكا، التي ستتضرر شركاتها بهذا التخفيض، لكنها ستجد ما يعوضها عنه من نواحي أخرى، وهذا شأو الدول العظمى.
لذا يجب اعتماد رقما أقل من50 دولارا للبرميل في الميزانية.
ثانيا- كميات النفط التي اعتمدتها الميزانية:
إن كميات النفط التي اعتمدتها الميزانية هي3 ملايين و300 ألف برميل يوميا كمعدل للتصدير خلال السنة القادمة، وهذا الرقم يتضمن تصدير550 ألف برميل يوميا من الحقول الشمالية وكميات نفط أخرى من إنتاج حقول كردستان، هذه الكمية يفترض أن تأتي وفق الاتفاق الأولي الذي توصلت له الحكومة الاتحادية وأربيل.
هذا الاتفاق أولي وما زال أمام الطرفين ستة اشهر، وربما سنة، من المفاوضات الصعبة للتوصل إلى اتفاق نهائي، أي أن هذه المفاوضات ستجري خلال سنة2015، وكما عودنا الاقليم خلال السبع سنوات الأخيرة التي جرت خلالها عشرات جولات المفاوضات التي لم تسفر عن اتفاق واحد صمد لأكثر من شهر، وعشرات جولات المفاوضات التي يتفق فيها الطرفان لكنها تواجه برفض من جهة ما فيما بعد، فيعود المتفاوضون من جديد، وهكذا.
الاستنتاجات:
ما تقدم يعني أن هذه الكميات غير مؤكدة، وقد يستغلها الاقليم، على سبيل المثال وليس الحصر، لابتزاز المزيد من الأموال على حساب الآخرين، لأنهم في وضع أفضل من أي وقت مضى، وبوسعهم ابتزاز الحكومة الاتحادية بسهولة فيما لو هددوا بقطع النفط الذي يتدفق عبر كردستان إلى تركيا، خصوصا وأن الحكومة الاتحادية في وضع لا تحسد عليه، فهي بحاجة إلى أموال طائلة بسبب الحرب وتحديات أخرى لا تقل خطورة عن الحرب مع داعش، لذا من الممكن أن تذعن الحكومة الاتحادية وتقدم التنازلات التي سوف لن تقف عند حد.
ولو وظفنا نظرية الظن، ولو إن بعض الظن إثما، فقد تكون هذه الميزانية، بهذه الأرقام، قد صممت عمدا لتكون وسيلة لمزيد من الابتزاز، خصوصا وأننا نعرف الجهة الأصلية التي وضعتها، ألم يقولوا "لا يلدغ المومن من جحر مرتين"، وقد لدغنا ألف مرة.
لذا يجب أن تعتمد الميزانية رقما آخر للكميات المفترض تصديرها، وهو مليونين و800 ألف برميل يوميا.
وفي حال تم تصدير الكميات المتفق عليها عبر كردستان، آن ذاك سيكون هناك جداول مرفقة لميزانيات تكميلية أضافية، وهكذا ستكون حصة كردستان في الأموال الاضافية رهنا باستمرار التصدير عبر الإقليم لكمية النفط550 ألف برميل يوميا.
وعليه أيضا يجب تحديد سعر النفط في الميزانية للعام2015 ب40 أو45 دولار في أعلى تقدير بعد إعلان السعودية لهذا النهج بتخفيض الأسعار.
لأن في حال انخفض سعر النفط دون ال60 دولارا، لا تستطيع الحكومة استرجاع ما صرفته أو ما دفعته من تخصيصات للمحافظات أو للاقليم من مستحقات في الميزانية، وكما هو معروف أن الاقليم بالخصوص سيأخذ مستحقاته مقدما، أي حتى قبل تصدير كميات النفط.
لذا احذر من صرف أي مبلغ من التخصيصات لأي جهة كانت، أو دفع أي مبلغ للاقليم من تخصيصاته قبل الحصول على الأموال بعد بيع النفط في جميع الأحوال.
كما ويجب أن ينص قانون الميزانية على ذلك بمنتهى الوضوح والتفصيل لكي لا يتم الادعاء بغير هذا المعنى
مقالات اخرى للكاتب