الإنسان يرى بحريته وليس بعينية. ولذا، كلما حاولت أن أرى وطني مدينتي وأصدقائي فإن صفحة الذاكرة لا تسجل المكان والناس. كان ذلك منذ زمن وليس الآن فحسب. عندما جئت إلى البصرة في بداية هذا العام 2013 بعد غياب أكثر من أربعين عاما سوى بضعة شهور صورت فيها فيلم المغني في منطقة القصور الرئاسية، وجدت الشوارع غير الشوارع والأزقة غير الأزقة والبيوت غير البيوت. ظاهرة المقاهي قد إختفت من البصرة، فصاحب المقهى يربح من تأجير المكان لخزن علب العصير المصبوغ أكثر من بيع كوب الشاي وفنجان القهوة لزبون يقضي نصف نهاره يتحدث مع صاحبه عن الأدب والثقافة أو عن المرض والدواء أو عن تأخر صرف الراتب التقاعدي.
صار الناس يفكرون بحلاوة الأرباح وليس بحلاوة تقاليد المقهى وصداقة الناس ومتعة هذه الحلاوة الإجتماعية.
والناس يلهثون بإستيراد البضائع ولا ينتجونها فيحتاجون إلى المخازن لحفظ البضاعة وتكديسها غير آبهين بدرجة الحرارة ولا بحجم الرطوبة والعفن، فإن تلف الجبس أو تعفن ومغصت معدة الأطفال فذلك من شأن الطبيب الغائب عن عيادته وليس من شأن صاحب المخزن!
ذهبت إلى بيتي القديم المباع أنا وإبن أخي جميل. كلانا هطلت دموعه لوحدها حيث أستجابت للوحشة والحزن. إتصلت بي زوجتي من هولندا تلك اللحظة وقالت لي لماذا تبكي؟ إندهشت. الحياة فيزياء، تأكد لي ذلك!
شاهدت بيتنا القديم الذي يملكه آخر غيرنا وقد هبط البيت عن مستوى الرصيف فيما كان البيت أعلى من الرصيف. تذكرت سيدوري وقولها لكلكامش "متى بنينا بيتا يدوم إلى الأبد؟"
إتفقنا، الكاتب البصري المبدع الصديق محمد خضير وأنا، أن يكون موعدنا عند مسرح عتبة بن غزوان حيث تقدم مسرحية هناك. هذا المسرح كنت أقدم فيه كل مسرحياتي في نهاية الخمسينات وبداية الستينات. شاهدنا فوضى المكان حيث المسرح مثل فاصوليا في سوبر ماركت في فترة الحصار على العراق المكان مزدحم بدون نظام ولا بطاقات دخول. عائلات وأطفال يصيحون وآخرون يبكون حيث والد الطفل يلعب في المسرحية!. خرجنا بعد أن قلت لصاحبي الجميل محمد خضير "المسرح ليس المنصة وحدها. المسرح يبدأ من باب الصالة وينتهي وارء الكواليس. دعنا نغادر المسرح. خرجنا من "المكان" وذهبنا نحو كورنيش شط العرب. ثمة مكان يسمى مجازاً مقهى فهو بين المقهى والمطعم. كان الوقت ليلا. جلسنا بإتجاه النهر. قال لي محمد خضير يصعب أن نرى الماء في الظلام.
ليس ثمة صوت لإنسياب مياه النهر، وليس ثمة سفينة آتية من الخليج ولا صياد سمك يشعل الفانوس. غيرنا المكان بإتجاه الكورنيش حيث ثمة أضواء خافتة نرى بعض ملامح الشارع. كان محمد خضير يسألني عن السينما وأنا أسأله عن القصة.
سألني كيف يمكن أن نرى فيلم "المغني" الذي صورته قبل عامين وكان محمد خضير يشاهد بعض مشاهده أثناء التصوير؟ يعرف محمد خضير أن صالات السينما مثل ظاهرة المقاهي قد تحولت إلى مخازن لحفظ كراسي البلاستيك وعلب صلصة الطماطم وقناني المياه التي تتم تعبأتها من الحنفيات وعليها علامة "عيون"! ويتم تصديرها إلى العراق!
أنا في حيرة من أمري! الأصدقاء يريدون مشاهدة فيلمي "المغني" ويعرفون أن جمهور أيطاليا يشاهد الفيلم وجمهور البصرة لا يشاهده. لم يأت أحد لا من السلطة السياسية في إيطاليا ولا من السلطة الدينية فيها فيهدم صالات السينما، ومدينة السينما "جينا جيتا" لا تزال تعج بالممثلين والديكورات. ترى هل يصح أن تتم المشاهدة الأولى في مدينة البصرة على شاشة تلفزيونية في بيت؟! طيب وكيف الصوت المجسم!؟ هل أعرض الفيلم أم لا أعرضه. أنا في حيرة من أمري بين رغبة الأصدقاء بمشاهدة الفيلم وبين حزني أن لا يستوفي الفيلم شروط العرض النظامية!؟
قضينا الأمسية في دروب الأدب المطفأة ودروب الفن المطفأة وسادنا سكون أحيانا ولو للحظات حيث مرعابرا وجه القاص الراحل محمود عبد الوهاب ووجه الشاعر الراحل محمود البريكان ووجه المسرحي الراحل جبار العطية ووجه عازف العود الراحل محمد كنوش.
محمد خضير لا يسافر. حتى إلى بغداد لا يسافر.
السفر عنده مشكلة تيه جغرافي ويحب السفر في دروب القصة ومنعطفاتها وساحاتها.
السفر عند محمد خضير عملية عسيرة. البصرة عنده هي العالم. من خلالها يرى البلدان. ويرى الناس، وطالما يوجد كتاب وتوجد مسرحية ويوجد فيلم سينمائي فإنه يرى الحياة من خلال مفردات التعبير هذه. فإذا تهدمت صالة السينما فأن محنة السفر من المكان والإبحار نحو "موبي ديك" و "الشيخ والبحر" يصبح ليس صعبا فحسب ولا مستحيلا فحسب بل هو مخيف، فكيف لمن يخاف السفر في بحار الدنيا أن لا يرى البحر حتى على شاشة السينما!؟
المشكلة بالنسبة لي هي مشكلة ثانية يعاني منها كل من تعرض للغربة وعايش محنة القهر والسفر القسري، إنني يوم أن غادرت العراق بطريقة فيها الكثير من الغرائبية والمغامرة وتركت الناس والأمكنية كنت أتوقع أن أرى الناس كما في لحظة الفراق. عندما عدت شاهدت الأمكنة مهمدمة والناس مهدمين أيضا. لهم لحى وشوارب كثة وشعر الرأس قد إختفى والوجوه الصافية مرسومة عليها الأخاديد والتجاعيد. الكلام بطيء وثقيل وأستحداث الحدث عسير والمتحدث ينسى أسماء الناس والأمكنة.
محمد خضير بدا لي وكأنه لا يزال كما فارقته هادئا صافي الذهن بصري الملامح يسافر كثيراً وهو في مكانه البصري بين البيت وشط العرب وأبي الخصيب وحارة الخندك ومحلة الجبيلة وساحة أم البروم التي تؤدي إلى السوق وقد علت الحواجز الكونكريتية في مداخل السوق خوفا من المغامرين الذين يحبون الموت للحصول على وجبة غداء خاصة في مطعم السماء!
يبقى محمد خضير مسافراً في مكانه ويرسم لنا مدناً وأزقة في "بصرياتا" أجمل من كل شوارع الدنيا ومدنها.
مقالات اخرى للكاتب