لم تكن معركة الانتخابات العراقية الماضية معركةً سياسيةً فحسب، بل كانت معركةً ثقافيةً ايضاً، معركة بين صنفين من المثقفين. صنف يراه بعضنا يعيش في برجٍ عاجي ولا ينتمي الى عالمنا هذا. يصر على استخدام لغة نخبوية متخشبة لا تجد لها صدىً عند عوام الناس، وصنف آخر اسمّيه مثقفاً روزخونياً، وهو ذلك المثقف الذي امتهن لغة منبرية وظيفتها تأجيج عواطف الناس والتماهي مع الجمع فكراً وموقفاً
ومثلما نذم الصنف الاول ونطالبه ان ينزل من برجه ذاك ليشارك الناس همومهم ومشاكلهم، اجد من الضروري التعرض للخلل الذي يقع فيه الصنف الثاني، فاللغة التي يبدأ بها المثقف الروزخوني حديثه من قبيل مثلاً "مَن قال اننا كذا وكذا" او "مَن هذا الذي يعيّرنا ونحن شعب كذا وكذا" ما هي الاّ لغة عاطفية غير بريئة اقرؤها رسالةً وضوءاً اخضراً للعوام أن يبدأوا هجومهم وليس رغبةً منه ان يدافع عن مسألةٍ ما. لغة يحاول صاحبها جمع اكثر عدد ممكن من الآراء المؤيدة دون ان يكون لها بعداً نقدياً لظاهرةٍ ما او سلوكٍ معين، وتلك لعمري محاولة مفضوحة يزحف فيها المثقف على بطنه ليتحاشى مواجهة الجموع الرافضة
النقد هو رأسمال المثقف وبفقدانه يفقد المعول الذي يفكّك فيه الظواهر الاجتماعية البارزة، اقصد بها تلك التي تقف في طريق السكون نحو الحركة
مَن يستقتل على مداراة الجمع وجذبهم حوله كمَن يجمع الدبابير في خليّته. سيهجمون عليه ويلسعونه كلما استفزهم الاقتراب من عشّهم. عليه ان يبقى انيساً لطيفاً معهم للأبد، محباً لهم من بعيد، والاّ لن يكون في مأمن من لسعاتهم حتى مع كل ما فعله من اجلهم سابقاً. هكذا هو الجمع الهستيري
بصراحة لا احسن النيّة في هكذا صنف من المثقفين. اعتقد إنهم يحاولون بشتى الطرق الابقاء على العلاقة ممدودة بينهم وبين المجموع مهما تطلّب الموقف من مكاشفة ونقد. فهم مثقفون ايديولوجيون بارعون في تبرير ما لا يُبرَّر، يوظفون ادوات الثقافة الحديثة التي وُجِدَت اصلاً لانتقاد الركود والسكون في تجميل ما يؤمن به الجمع الهستيري. إنهم ينقذون الجمع من ورطاتهم واحراجاتهم من خلال تسخير تلك الادوات لخدمتهم. كإنهم يقولون اذهبوا ونحن من ورائكم نصد عنكم هجمات "العاجيين" بأدوات يتقنها نحن وهم
بئس المثقف الذي يقف خلف الهستيريا الجماعية بدلاً من نقدها ومساعدتها على رؤية مصالحها ورقيّها
ثمّة مفارقة مضحكة حين يلقي المثقف الروزخوني اللوم على المثقف العاجي ويحمّله مسؤولية الخراب الفكري الذي يعيشه المجتمع، فهو لطالما سخر من العاجي عدم قدرته على الفعل او التأثير بالمجموع لأنه لا يملك القناة المناسبة للوصول الى اذنهم، نسي ان يقول لنا ما الذي فعله هو بمخالطته وانتمائه لذلك المجموع. أليس هو مَن عرف الخلطة التي اوصلته لقلوب هؤلاء؟ فما الذي فعله معهم؟ واين تأثيره فيهم قبل ان ينقد تأثير العاجي؟
لا اعرف ما الذي يريده الروزخوني من المثقف بشكل عام. هل يريد منه الذهاب الى المقاهي او اللعب في ساحات الكرة او النوم في باحات الجوامع كي "ينزل" الى الارض ويحرّك العوام؟ ام مطلوب منه السكوت على سلوكيات الفرد واخطاء الجماعة حتى يحافظ على تلك العلاقة الطيبة بينه وبينهم؟
لست مع العاجي ولا مع الروزخوني. انا مع المثقف الحقيقي الذي لا يركن الى برجه العاجي في تحليل الظواهر ولا يخضع لحماسة المقاهي في تبرير النكبات. مع المثقف التنويري الذي لا يكل ولا يمل من النقد الايجابي سعياً وراء الاصلاح.
مقالات اخرى للكاتب