قبل أيام أتصل بي صديق طفولتي يسألني عن بعض الأمور المصرفية التي تهمه ويرى أن فيها ضمانة لمستقبله بعد أن تقاعد من عمله عن خدمة تجاوزت الأربعين عاماً وهو لا يعرف كيف يتصرف حيالها ، سألني على استحياء عن رأيي في أن يرسل أمواله إلى إيران لاستثمارها هناك وإيداعها في المصارف الإيرانية ليحصل على معدل فائدة يتجاوز 10% ? وقد تكرر هذا السؤال من قبل العديد من الأصدقاء والذي فهمته من خلال حديث هذا الصديق أن الناس بدأت تهرِّب أموالها إلى الجارة إيران بغية إيداعها في المصارف الحكومية الإيرانية للحصول على معدل فائدة عال وحتى المصارف الأهلية الإيرانية تمنح نفس النسب والحديث عن الاستثمار هناك يجعلني مبهورا لكثرة الحوافز الموجودة وعناصر الجذب والضمانات التي تمنح للزبون للحفاظ على أمواله ،والواقع لا أعرف ماهي هذه الضمانات التي تم إقناع المودع العراقي بها ولكني أجدهم يتحدثون عن هذه الودائع وبثقة عالية، لقد طلب هذا الصديق رأيي حول هذا الموضوع.
قلت له إن كان يهمك رأيي فأنا أضع هذا العمل تحت بند الخيانة العظمى فهذا يعني التخريب الاقتصادي حيث ستقوم أنت بتهريب أموالك إلى جهة أجنبية ليتم استثمارها من قبل مصارف تلك الدولة على الأنشطة المستدامة في فتح المصانع والمؤسسات المنتجة والتي بدورها ستقوم بتصدير بضائعها إلى العراق وأسعارها بالعملة الصعبة وسوف تستلم أنت جزءاً بسيطاً من تلك الأرباح وبالتالي فأن الصناعي العراقي لا يمكن أن ينافس تلك البضائع المدعومة من قبل دولها الواردة منها وستكون ساهمت أنت وأمثالك من الأغبياء في تهديم الاقتصاد العراقي ،فقال لي إن الحكومة تسمح بهذا ،نعم إن الحكومة تسمح بهذا لأنها حكومة تابعة لدول الجوار وليست وطنية وأنت سألتني عن رأيي في هذا الموضوع وأنا قلت لك ماتعلمته ودرسته وكتبت أطروحتي عنه .
نظرة بسيطة للواقع المصرفي العراقي ينبئنا عن مدى تخلف هذا القطاع الحيوي في العراق ولم نر أي خطوة جادة من قبل الحكومة لتطوير هذا القطاع الحكومي أو مراقبة نشاطات المصارف الأهلية بشكل حقيقي يضمن حقوق المودعين أولا وانسيابية التمويل والاستثمار للأنشطة المستدامة بالبلد والتي تدخل من ضمن أولويات تلك المصارف ،فالبنك المركزي غائب تماما عن هذه الدكاكين الأهلية والتي مارست دورا سلبيا ومؤثراً في تهريب العملة الأجنبية العراقية ومن ثم هي قد استحوذت على الكنز العراقي أو ما يسمى بالاحتياطي العام للبنك المركزي العراقي والذي يعتبر غطاء للعملة العراقية والذي يحافظ على قيمتها من الانهيار كما حدث في التسعينات …
لقد ادت المصارف الأهلية في العراق دورا سلبيا خطيرا في تخلف الاقتصاد العراقي بدلا من أن تكون عاملا مساهما في بناء وتطوير القطاعات الصناعية والزراعية والتجارية ،ناهيك عن عدم قدرتها من الوفاء بالتزاماتها تجاه الحكومة والقطاعات الأخرى ،لقد قامت هذه المصارف وخلال الفترة الماضية بكفالة مقاولين من الدرجة العاشرة بمبالغ تصل إلى مليارات الدولارات لغرض حسن أداء في انجاز المقاولة ولم تكن خطابات الضمان التي تصدرها تلك المصارف تعتمد على ملاءة المقاول ورصانته ولم تخضع عملية الكفالة إلى شروط ومقررات لجنة بازل دون أن يحرك البنك المركزي العراقي قسم رقابة الصيرفة والائتمان ساكنا ،فهم غير معنيين بهذه التجاوزات الخطيرة والتي أدت إلى توقف العديد من المشاريع الإنمائية بالبلد بسبب عدم إيفاء المقاول العراقي والأجنبي بالتزاماته ولم تف هذه المصارف بالتزاماتها تجاه الدولة ….
هناك عدة عوامل ساهمت في تهريب رؤوس الأموال العراقية إلى دول الجوار :
أن هذه المصارف سواء الحكومية منها والأهلية لا تمثل عنصر جذب للودائع العراقية حيث جعل سعر الفائدة المتدني جدا المودع العراقي يهرِّب أمواله إلى دول الجوار سواء في الأردن أو في إيران أو في أي دولة أخرى للحصول على أرباح عالية.
الحفاظ على هذه الأموال من خطر الإفلاس الذي تتعرض له المصارف الأهلية بين الحين والآخر حيث تقوم هذه المصارف بالمضاربة بأموال المودعين في سوق البورصة في دول الجوار دون أن يردعها البنك المركزي العراقي .
قلة السيولة النقدية التي تربك عمل التاجر العراقي في تداولاته اليومية مع زبائنه حيث يتوقف المصرف الأهلي بالإيفاء بالتزاماته تجاه زبائنه في عمليات السحب النقدي.
المصارف الأهلية لم تساهم في تشجيع المستثمر العراقي ومنح القروض الصناعية والزراعية والتجارية فهذه المصارف لم تمثل النشاطات المصرفية في حدها الأدنى سوى في عمليات التحويل الخارجي .
لم تقدم هذه المصارف الأفكار للصناعي والتاجر العراقي ولم تساهم في تطوير أسواق النشاطات المختلفة وتسويق أفكار يمكن ان تخدم العملية الإقتصادية.
اجواء مناسبة
حين يراد للمنظومة المصرفية النهوض لابد أن تتوفر لها الأجواء المناسبة للعمل فالمصارف شأنها شأن الدولة فهي بحاجة إلى العلاقات المصرفية الخارجية والبنوك المراسلة في جميع أنحاء العالم لكي تتمكن من تغطية نشاطاتها التجارية والاقتصادية الأخرى فالتاجر يحتاج إلى مثل هذه العلاقات في نشاطاته المتعددة وكذلك الصناعي والنشاط الزراعي فعملية الاستيراد والتصدير نشاط اقتصادي يحتاجه البلد ،وبلد مثل العراق يقع في هذا الجزء الحيوي من العالم يمكنه أن يكون مركز تجاري عالمي ويلعب دورا مهما في الوساطة التجارية بين الشرق والغرب إذا ما توفرت له منظومة مصرفية متكاملة …وهكذا كان التاجر العراقي .
لنعد قليلا إلى الوراء ما قبل العام 1991 أي قبل الحصار الذي تم فرضه على العراق فقد كان العراق يمتلك منظومة مصرفية فاعلة في جميع أنحاء العالم وبإمكان التاجر العراقي القيام بالتصدير والاستيراد مع كل دول العالم دون استثناء دون يشعر بصعوبة التحويل الخارجي فالبنوك العراقية سواء كانت البنوك المباشرة والغير مباشرة لديها القدرة على فتح الاعتماد ألمستندي الصادر لأي تاجر تقع تجارته ضمن احتياجات البلد الاقتصادية بشرط عدا البضائع الممنوعة ويجب أن تدخل بضاعته في تنمية الاقتصاد العراقي فهذا هدف وطني يتحمله المصرفي ،فالنظام المصرفي في حينها كان يعتبر الأول في المنطقة ويرفد كل الدول الإقليمية بالخبرات والإدارات الناجحة لما تتوفر عليه هذه العناصر من خبرات متراكمة وقدرة على تسيير أعمال المصرف بالإضافة إلى الشعور بالمسؤولية والوطنية العالية التي كانت دافعهم الرئيسي في بناء هذا النظام المصرفي الدقيق. بعد العام 1991 وقع النظام المصرفي العراقي تحت طائلة الحصار الاقتصادي فالأمريكان وجهوا ضربة قاضية للاقتصاد العراقي حين قطعوا أذرعه الطويلة والممتدة حول العالم بقرار واحد وهو تجميد الأرصدة العراقية وإخضاعها للبند السابع وهنا حدثت الكارثة وبدأت عملية التراجع بالأداء المصرفي الخارجي وأقتصر عمل البنوك في الساحة العراقية فقط .لقد توقفت العلاقات المصرفية الخارجية تماما عدا قيود المديونية التي ظلت تظهر في الحسابات المصرفية والتي تشكل عبء آخر على المصارف العراقية التي توقفت بنوكها المراسلة عن تسديد التزاماتها تجاه داينيها بالرغم من وجود أرصدة وذلك بسبب قرار التجميد المفاجئ الذي أصدرته المنظمة الدولية على أرصدة العراق الخارجية ..لقد استمر هذا الحصار على الأرصدة أكثر من عقد من الزمان وقد تسبب بأضرار كثيرة للبنوك العراقية .منها أضرار فنية أفقدت المصارف العراقية الكثير من خبراتها وهي :-
1. لقد طالت عمليات القصف العشوائي الأمريكي المفاصل الحيوية للمصارف العراقية ومن ثم قيام عمليات الشغب- التي حدثت فيما بعد- بحرق كافة المصارف العراقية وتلف الأجهزة و الكومبيوترات التي كانت تحوي على كل الملفات الحيوية والأرصدة وكافة الأنشطة الأخرى ومن ثم عودة العمل المصرفي للعمل اليدوي لعدم توفر تلك الأجهزة .
2. مرور وقت طويل دون ممارسة المصارف العراقية عمليات التحويل الخارجي والاعتمادات المصرفية لعدم وجود شبكة مراسلين لها في الخارج وهذا ما افقد المصارف العراقية هذه الخبرات التي تم إحالة موظفي هذا الأقسام على التقاعد لبلوغهم السن القانوني.
3. تطور العمل المصرفي في العالم من خلال شبكات تواصل وتكنولوجيا حديثة تختلف عن تلك التي كان المصرفي العراقي يستخدمها في عقد الثمانينات لم تدخل للعراق بسبب الحصار.
4. اعتماد العراق بشكل رئيسي على المصارف الحكومية العراقية دون تطوير القطاع المصرفي الأهلي ودون السماح للمصارف الأجنبية الدخول للاستفادة من خبراتها وتطوير القطاع المصرفي والاستفادة من علاقاتها المصرفية الخارجية مما جعل النظام المصرفي يعاني من حالة ركود غير مسبوقة . إن هذا التوقف عن مواكبة التطور الذي حدث في العالم افقد القطاع المصرفي العراقي الكثير.
لقد حافظ العراق على النخب المصرفية المتقدمة في الإدارات العليا طيلة فترة الحصار والتي استطاعت بدورها أن تقدم كل مالديها من خبرات للتخفيف عن كاهل التاجر والصناعي والزراعي العراقي وامتدت خدماتها إلى ابعد من ذلك من خلال منح القروض المختلفة للمواطنين وقد عملت بالمتاح من الصلاحيات التي خولتها الحكومة وأما الباقي فيبقى رهناً بالقرار السياسي الذي ظل منكفئً على نفسه ولم يحاول شق شرنقة الحصار من خلال تطوير العلاقات المصرفية مع القطاع الخاص وربطه بالمصارف الأجنبية والعربية الأخرى الذي كان سيوفر منفذا كبيرا للعراق في استعادة نشاطه المصرفي وبشكل اعتيادي بالإضافة إلى الحصول على التكنولوجيا الحديثة ,
بعد الاحتلال الأمريكي للعراق أدرك المصرفي المخضرم ( أحمد الچلبي ) هذه الحالة فقام بالمساهمة بتأسيس (المصرف العراقي للتجارة )وهو مصرف حكومي بحت ولكنه محمي من قبل مجموعة مصارف أمريكية وتأسس هذا المصرف وفق النظم والأساليب المصرفية الحديثة التي لم تدخل للعراق من قبل وليقوم هذا المصرف بفتح منفذ للعراق بالتعاملات المصرفية الخارجية ولتنفيذ كافة معاملات التحويل الخارجي والاعتمادات المستندية الخاصة بالدولة والقطاع الخاص.ولكن المشكلة ظلت قائمة من خلال اختيار مدير للمصرف بنفس المستوى والروح الوطنية التي درج عليها مدراء المصارف الحكومية وهنا لا أقصد البيروقراطية المقيتة ولكن اقصد الاهتمام بنوع النشاطات الاقتصادية التي يموّلها البنك أو يساهم بجلبها للعراق من خلال فتح هذه الاعتمادات ولكن البنك توخي عامل الربحية العالي دون النظر بنوعية النشاطات التي يقوم بها الأفراد وهذا مما ساهم في تراجع كبير للاقتصاد العراقي وتهريب كبير للعملة الأجنبية من خلال هذا المنفذ الحكومي المتسلط على القرار السياسي ،وقد تبعت البنوك الأهلية نفس السياسة المالية من حيث فتح الاعتمادات المستندية لصفقات وهمية أو بضائع رديئة التي ساهمت في تعطيل الصناعة المحلية والقضاء على كافة الأنشطة المستدامة التي كانت موجودة في البلد، وبدلا عن تطويرها صارت هي سببا رئيسيا في القضاء عليها ،والأمر الآخر ساهمت هذه المصارف (الأهلية) كما قلنا سابقا وفي مقال الحلقة الأولى بتهريب رؤوس الأموال العراقية للخارج والمضاربة فيها بأسواق البورصة مما عرضها للإفلاس وفقد المودع العراقي كافة ودائعه دون أي اهتمام من قبل البنك المركزي العراقي الذي تقع مسؤولية الرقابة على هذه المؤسسات من ضمن اختصاصاته .
أداء ثابت
بقيت المصارف الحكومية والأخرى التجارية منها والاختصاصية محافظة على وتيرة أداء ثابتة بقدرة إداراتها العليا التي بقيت فيها دون تغيير يذكر حيث خلف فائق العبيدي الأستاذ عبد الهادي وهو مصرفي مخضرم ومن ثم خلفه الأستاذ فؤاد الوكيل الذي حافظ على نزاهة هذه المؤسسة وقوة أدائها وتأثيرها في الزبون العراقي ومتانة الثقة بها ،وفي مغادرته لمنصبه بدأت مرحلة جديدة كان سببها الإدارات العليا التي تم اختيارها وفقا للمحاصصة الحزبية وبذلك أصبحت هذه المؤسسات وأقصد هنا(الرافدين،الرشيد ،الصناعي ،الزراعي ،العقاري).
فقد نصب هؤلاء المدراء وفق ولاءاتهم وحصص أحزابهم فالمصرف العراقي للتجارة صار من حصة الأكراد والبنك المركزي من حصة الدعوة والرشيد من حصة اتحاد القوى والرافدين أيضا للدعوة وهكذا بقية المصارف الحكومية ،حيث تم اختيار المدراء بشكل يتلاءم مع تطلعات تلك الأحزاب بعيدا عن المهنية مما عرض الأداء المصرفي إلى انتكاسة كبرى تفوق تلك التي تعرض لها أبان الحصار ،فهي أصبحت عامل هدم للاقتصاد العراقي ،لم تعد تلك المصارف تعتمد المعايير الوطنية في الاستيراد والتصدير ومنح الائتمان وتنمية النشاطات الاقتصادية ،فالصفقات صارت تعقد في بيروت ،وبدلا من تطوير شبكة المراسلين العالميين وبنوك التغطية ،صارت المصارف اللبنانية هي من يتولى العمليات الخارجية للبنوك العراقية ،وبدلا من تطوير القطاع الصناعي صار البنك يتعاقد مع شركات فاشلة لاستيراد سيارات لا تحمل المواصفات والشروط الدولية من دول لا يمكن أن تخضع صناعتها للسيطرة النوعية وبالرغم من تحذيرنا المستمر لأحد مدراء هذه المصارف من مغبة استيراد هكذا عجلات لأنها ستكون وبال على الاقتصاد العراقي ،إلا أنه مضى في مشروعه السقيم وأغرق السوق العراقية بهذه السيارات التي ينتهي عمرها الافتراضي قبل تسديد أقساطها من قبل المشتري،طبعا هذا تم وفقا لأجندة خارجية هو جاء لتنفيذها . لقد باتت المصارف الحكومية العراقية والمصارف الأهلية تشكل تهديدا حقيقيا للاقتصاد العراقي بسبب هذه المحاصصة حيث يتم منح قروض بالمليارات لتجار خارج مناطقهم بسبب علاقاتهم بالمفاصل العليا للدولة فمثلا التاجر الكردي له الأفضلية في جميع المصارف حيث يمنح قروض بالمليارات أما بضمانات عقارية مزيفة أو قد تم تقييمها خارج الضوابط وبالتالي تمت المبالغة في تقييمها أو بدون توثيق وبأوامر مباشرة من الوزير المختص. هذا ساعد على نقص حاد في السيولة النقدية في مناطق الوسط والجنوب وبغداد والغربية وهدد بشكل مباشر ودائع الجمهور ويحدث هذا أمام مرأى ومسمع البنك المركزي العراقي وبمراجعة بسيطة في سجلات أقسام الائتمان في مصارف الرشيد والرافدين والعراقي للتجارة ستجد الحجم الهائل للقروض الممنوحة إلى منطقة كردستان دون ضمانات حقيقية ،ناهيك عن كون هذه المنطقة لا توجد فيها فروع فاعلة لهذه المصارف ،فهؤلاء التجار يقومون بالاقتراض من بنوك بغداد والمحافظات الأخرى خارج سياقات العمل التي تقتضي الالتزام بالرقعة الجغرافية لعمل وتواجد التاجر وذلك لأن مثل هذه القروض لا يعتد فيها الكفاءة المالية للتاجر فقط بل تقدم السمعة الأدبية على الكفاءة المالية ،وبما أن هذا التاجر يعتبر مجهول بالنسبة للبنك المقرض سيكون من الصعب جدا على مدراء تلك البنوك رسم صورة حقيقية عن هذا التاجر وبالتالي سيكون هذا القرض ضمن القروض المتعثرة وسيؤدي بالتالي إلى نتائج غير محمــــودة وقد حصل مثل هذا في المصرف العراقي للتجارة سابقا وسيتكرر بصورة أكبر ولكن هذه المرة في جميع المصارف .
مقالات اخرى للكاتب