عندما تساءلت الملائكة عن جدوى خلق الله لآدم لم يسخط الحكيم العالم عليهم كما يفعل الجبابرة والطواغيت قديماً وحديثاً لو سئلوا عن مبررات قراراتهم وأفعالهم، ولم يوبخهم ويذكرهم بأنهم يخاطبون صانعهم من العدم، بل تعامل معهم في منتهى التحضر والعلمية إذ أجرى لهم تجربة حسية كانوا هم وآدم مشاركين بها، وكان آدم الذي علمه الخالق الأسماء كلها موضع التجربة فيما كان الملائكة مجموعة السيطرة لأنهم لم يعلموا الأسماء، ثم طلب منهم بيان هذه الاسماء فأقر الملائكة بجهلهم بها على عكس آدم، وهكذا برهن لهم العارف بكل شيء بأنه يعلم ما لا يعلمون، وبين لهم ولنا حقيقة أخرى أساسية وهي بأن أسمى خصائص البشر القدرة على التعلم، وأرشدنا بصورة واضحة وجلية إلى منهجية المعرفة العلمية، ولكن فات على الغالبية العظمى من المسلمين أهمية وفائدة تلك الارشادات الإلهية وبأن الإسلام هو دين "اقرأ".
التحضر عملية تعلم مستمرة، تتوقف بانقطاع التعلم، وينكص الفرد إلى الوراء نحو الهمجية عندما تتدنى أهمية التعلم لديه ويحل محلها الجهل، وتسيطر عليه الأهواء والنزوات، ويقع عقله فريسة الجهل والخرافات والعقائد المنحرفة، وقد بين الله في قرآنه المجيد أبرز صفات العقل الهمجي، وهي الانغلاق على المعرفة، والتشبث بالمعتقدات والأفكار الموروثة من دون تمحيص وتقويم، والاصرار على اتباع الموروث الفكري للسلف أي طوطمية الفكر الموروث، والمحصلة النهائية لتعطيل وانغلاق العقل هي تبلد الحواس والختم على العقل بحيث يرفض كل ابداع وتطوير لمجرد كونه جديد، لم يأت على ذكره الأولون، ولم يقروا مشروعيته، وهذا الإنسان كما يصفه القرآن الكريم شر الدواب، بل هو أسوء من الحيوان، لأن الحيوان أذكى من الاختيار تطوعاً تحريك ناعور، فيرضى بتعصيب عينيه ودورانه في نفس المسار لا يحيد عن خطاه طيلة نهاره، وعلى الرغم من مرور الأيام الطوال ولربما حتى النفس الأخير وقطعه مسافات شاسعة فهو لا يبرح مكانه، ولو أزحت العصابة عن عينيه وأدرك حقيقة وضعه لتوقف أو لمرض بالدوار أو لهلك حسرة على نفسه، لذا فالإنسان الذي يختار لعقله الجمود أو الحركة ضمن فلك ثابت هو أما مقيم على الهمجية والجهل أو ناكص إلى الوراء نحو درك أسفل من الهمجية.
لماذا يقترن انغلاق وجمود العقل بالهمجية؟ السبب الأول هو أن العقل المنغلق يرفض التطور، فلو كان الفرد همجياً في البدء لاستمر على حالته مقاوماً لأي تطوير، أما لو كان في مرتبة وسط بين الهمجية والتحضر فمن المحتمل جداً أن يتراجع باتجاه الهمجية، لأنه وفي مواجهته لقوى التغيير والتطور، وهي سنة من السنن الفطرية في الحياة، فسيلجأ غالباً إلى العنف، والعنف بحد ذاته ليس همجياً، فإعدام القاتل عنف إيجابي، وفيه إحياء للمجموع، أما القتل غير المشروع فهو فعل همجي، كما أن قتل الإنسان الذي يخالفك في الرأي هو منتهى الهمجية، وهنالك درجات أدنى من العنف يمارسها الهمجي ضد مناوئيه ومعارضيه مثل التعذيب والسب والعنصرية والتعصب والتحيز، ولذلك يعرف الهمجي بجنوحه للعنف عند كل صغيرة وكبيرة، وهذا العنف ليس نتيجة سورة غضب عابرة، يعود بعدها إلى رشده فيندم ويكفر عن ذنبه بطلب الصفح والتوبة، بل هو منهج ثابت وأسلوب مشروع في التعامل مع الآخرين الذين لا ينقادون له أولا يشاطرونه معتقداته وأساليبه الفكرية الجامدة.
ولا شك بأن كل فكر شمولي أو عنصري مثل النازية وحزب البعث العراقي ومذهب السنة السلفية أقرب إلى الهمجية منه إلى التحضر، كما أن تهميش العقل وسد باب الاجتهاد ابتعاد عن التحضر الإسلامي، وقد يتحول بصاحبه إلى درجات موغلة في الهمجية إذ اعتمد العنف والأساليب الوحشية الأخرى في قمع مخالفيه، وهذا بالضبط ما يحدث في عراقنا اليوم، الذي تكالبت فيه قوى الجهل والانغلاق والجمود الفكري بهمجية، في محاولة يائسة منها لإطفاء جذوة التحضر الإسلامي التي يحملها الفكر القرآني الأصيل، والمتمثل في تبني الاجتهاد والعقلانية ونبذ الانغلاق والجمود على الموروث.
وهذه الهمجية القديمة-الجديدة أسوء من همجية الأقوام التي اشتهرت بذلك، مثل المغول والتتر والفايكنك والقبائل الجرمانية القديمة، فبعد اجتياحهم ممالك وبلاد شاسعة هجر هؤلاء الأقوام بداوتهم واستقروا في المجتمعات المفتوحة، ولم يستطيعوا مقاومة التأثير الحضاري للشعوب المقهورة طويلاً، وكان مصيرهم أما التحضر أو الذوبان في تلك المجتمعات، ولكن الهمج الذين يشنون الحرب على المتحضرين في العراق وسورية ولبنان، وإن تشابهوا مع أولئك الهمج في سفك الدماء واغتصاب الأعراض والنهب والسلب والتخريب، من نوع مختلف، لا يرى في منهجه وفكره همجية، بل على العكس من ذلك يعتقد بأنها مثالية ويدعى بأنها مختارة ومفروضة من الله لذلك هي حق رباني، وكل من لم يؤمن بها ويتبعها جاهل وغير ذي قيمة إنسانية بل يستحق الموت ونهب أمواله واستباحه عرضه، ورسالة الموت والهلاك والخراب لهؤلاء الهمج على النقيض تماماً من جوهر الرسالة الأساسية للإسلام وهو الإحياء.
وفي ضوء هذه الحقائق الدامغة لا يجوز السكوت على هذه القوى الهمجية، بل الواجب على جميع المسلمين الحضاريين مقارعتهم وبدون هوادة، خاصة وأنهم قد تمادوا في غيهم وهمجيتهم إلى أقصى الحدود، وثقوا بأن أي تهاون أو مهادنة تجاههم لن تثنيهم عن همجيتهم بل ستزيدهم تشبثاً واصراراً، وتملي عقيدة الإحياء الإسلامية علينا التصدي لهؤلاء الهمج ومن يحتضنهم ويمولهم وإنزال العقاب الإلهي بهم لأن في ذلك حياة لأولي الألباب.
(للإسلام غايتان عظمتان هما الإحياء والإصلاح ووسيلة كبرى وهي التعلم)
مقالات اخرى للكاتب