في عجالة الحياة اليومية وإنشغالاتها .. لاينتبه المرءُ عادةً ، لبعض الظواهر الإجتماعية والسياسية ، لاسيما تلك التي أصبحتْ تدريجياً " أمراً واقعاً " .
فبعد مرور أكثر من عشر سنوات على إنزياح كابوس صدام من على كاهل العراقيين .. فأن الفوضى التي خّلفها الإحتلال الأمريكي وبالتماهي مع الطبقة السياسية الفاسدة الحاكمة ، فلقد تراجعتْ " المَدنية " في بغداد .. وعندما أقول بغداد ، فأعني العراق كله عدا أقليم كردستان . ولّما أقول المدنية ، فأعني ما تبّقى منها خلال فترة حُكم البعث .. إذ ان النظام السابق قد شّوَهَ الكثير من مظاهر " المدنية " التي كانتْ موجودة في الستينيات . ولكن على أية حال .. فأن الفرد العادي ، كان لايُفّكر قبل ثلاثين سنة مثلاً ، في " مخاطر " التنقُل من محلةٍ يغلب عليها الطابع الشيعي ، الى أخرى سُنية ! ، أو بالعكس . صحيح ، ان الطوائف والمذاهب والقوميات كانتْ موجودة في العراق ، منذ زمنْ طويل .. وصحيحٌ أيضاً ان التأريخ شهدَ الكثير من المعارك والتناحرات والقتل ، بين السُنة والشيعة على هذه الأرض .. لكن إنتشار التعليم والمبادئ الإشتراكية والإنسانية والعدالة ، لا سيما بعد ثورة تموز 58 ، قد خّففَ كثيراً من الغلواء المذهبية والدينية .
رغم فاشية النظام السابق ، فأن بعض مناطق بغداد كانتْ تعُج بالمسيحيين والإيزيديين ، الذين يقومون بأعمالهم بصورةٍ طبيعية .. في حين أنها خلتْ اليوم تقريباً ، من هذه المكونات الجميلة ، بعد إستهدافهم من قِبل الإرهاب وميليشيات العُنف المُنّظَم .
رغم لا إنسانية حُكم البعث وعبثية " حملاته الإيمانية " المزعومة ، فأن الحُريات البسيطة التي كانتْ تتمتع بها المرأة ، كانتْ موجودة بدرجةٍ ما .. والكثير من طالبات الجامعة في البصرة والجنوب ، كُنّ سافرات ، وكان الشباب يستمعون الى الموسيقى والأغاني .. في حين ان أحزاب الإسلام السياسي الحاكمة اليوم ، وأربابهم الأمريكان .. لم يُحّركوا ساكناً .. حين قامت ميليشيات ما يُسّمى الأمر بالمعروف والنهي عن المُنكر ، بالإعتداء على الشباب والشابات من البصرة الى الموصل مرورا ببغداد ، بل وحتى قتلهم أحياناً .. ان هذه العصابات المحمية من أحزاب الإسلام السياسي ، قامتْ وتقوم ، بنفس ما إقترفه النظام الفاشي السابق ، في ما كان يُسمى الحملات الإيمانية ، بل وتمادتْ في ذلك ، اليوم ، أكثر بمراحِل . لايوجد فرق كبير ، بين عصابات وميليشيات الأمر يالمعروف والنهي عن المنكر ، الشيعية والسُنية .. فكلاهما وجهان لِعُملةٍ واحدة .. فالذي يقوم بتفجير محلات المشروبات الكحولية في بغداد والبصرة والموصل ، هو نفس المُجرم .. والذي يحرق النوادي والملاهي وينسف محلات الحلاقة والتجميل والموسيقى والأغاني .. هو نفس المُتطرِف المريض ، الذي يحقد على المرأة ويعتبرها عَورة ويُمارِس ساديته عليها ، والذي يكره الرياضة وكرة القدم ويخاف من إختلاط الجنسَين في المدارس ، هو نفس المَسخ المُشّوَه . المأساة .. انه ليس فقط ، هذه العصابات والميليشيات ، مَنْ تمتلك هذه النظرة التدميرية ، تِجاه كُل ما هو " مَدني وحضاري " .. بل ان السلطات الحاكمة ، تزدحم بوزراء ونواب ومُحافظين ومسؤولين كبار .. رجعيين مُتخلفين مرضى ، كارهين لكل ما هو جميل ! .
...............
في خضم الفوضى الراهنة ، والقتل المجاني اليومي ، والعُنف الأعمى .. ليس الأمن ، هو الوحيد الذي فقدناهُ في بغداد .. بل معظم المظاهر المدنية أيضاً .. أسفي على بغداد ، بعدَ أن غدتْ صحراء قاحلة .
مقالات اخرى للكاتب