العراق تايمز: كتب صائب خليل..
اتصل بي على الخاص في الفيس بوك أحد الأشخاص، وبعد التحية والتعارف وإبداء الإعجاب والشكر، قال لي:
- أستاذ صائب، أريد ان أقول لك شيئاً..
- تفضل
- إحنا نريد نسوي ثورة!
- لم افهم ما يقصد، فربما يقصد ثورة ثقافية، او غيرها.. فسألت:
- ثورة ضد من؟
- ضد كل شيء!
أدركت أنه يتكلم بجدية، وعن "ثورة" بالمعنى الكلاسيكي: يعني قلب الحكم! قلت له...
- قبل كل شيء، وقبل ان تقول أية كلمة في الموضوع، هل تدرك أن نسخة مما تكتب الآن تذهب إلى السي آي أي والموساد؟
- أنت تمزح بلا شك!
- لا أبداً، وهي تسجل عندهم في اللحظة التي تضغط فيها على زر الحرف الذي تكتبه! الفيس بوك وغيره من مواقع التواصل الاجتماعي كلها لهم، وهي وسائل تجسس وجمع معلومات لا اكثر..
- (صمت لدقيقة، ثم أكمل...) يعني أنا مستهدف الآن؟؟
- حسب جدية موضوعكم، رغم إني لا اعتقد، لا أتصور أن الأمريكان يقلقون ممن يتحدث عن الثورة في الفيس بوك...
- إذن كل شيء تفلش! ... سيصاب الشباب بخيبة أمل كبيرة...
- من الأفضل ان تعرفوا الحقائق مبكرا قبل ان تتورطوا بشيء.
- يعني كل شيء مكشوف؟
- كل شيء! كل الاتصالات، إلا إذا كانت عبارة عن كلام مباشر بينكم، وبدون أي حاسبة او جهاز اتصال..
-...... إذن كيف نعمل؟
- ليس امامكم إلا العمل العلني.. العمل السري أما أن تشكلون حزباً او تنضمون إلى أقرب حزب او تيار او كتلة سياسية تجدونها الأقرب بالنسبة إليكم.
-... سأحدث الشباب بالأمر..
هذا كان مدار حديثنا، ودهشت ألا يدرك الناس هذه الحقائق الخطيرة عن الفيس بوك وغيره من وسائل التواصل وحتى الإيميل وكل ما يستعمل الأجهزة للاتصال. وتساءلت إن كان ذلك ظاهرة عامة أم ان من اتصل بي من قلة من الناس لا تعرف تلك الحقائق، وتركت الموضوع عند هذه النقطة.
في اتصال مشابه آخر، قدم لي أحد القراء نفسه بأنه أحد أعضاء الحشد الشعبي، وقال إنه في وحدة في الشمال وتحدث عنها قليلا، وقبل ان اودعه متمنيا لهم الموفقية، أكد لي على ضرورة الحفاظ على سرية ما دار بيننا! أخبرته بحقيقة الأمر وتركته منزعجاً بلا شك، وتذكرت شباب "الثورة"، وشعرت أن هناك نقص خطير في الوعي الأمني العراقي. فما يقرأه الناس في أوروبا وأميركا عن اعمال التجسس بواسطة الإنترنت والتلفون قد لا يصل إلى معظم الناس في الدول المتأخرة مثل العراق، وان العراقيين الذين بقوا لمدة طويلة بمعزل عن العالم، ثم استلمهم إعلام تم بناؤه من قبل الأمريكان والإسرائيليين، هم ضحية سهلة للغاية لأجهزة التجسس.
وقد سبق لأحد الأصدقاء ان أخبرني أن من الشائع أن يهدي البعض إلى الشخصيات المهمة "جهاز تلفون نقال"، وهم يرحبون بها ويستعملونها بلا حذر، رغم الخطورة الكبيرة لذلك. وتذكرت أيضاً ما قاله لي صديق قبل سنوات من ان بعض فصائل المقاومة العراقية للأمريكان كانت تستعمل التلفون النقال للاتصال بينها أحيان بلا حذر وبدون ان تدرك إمكانية التجسس على تلك الاتصالات.
ويمكننا ان نلاحظ فوراً نشاطات التجسس على التلفون النقال حين نقرأ "السماحات" التي تطلبها التطبيقات المنصوبة عليه. حيث تطلب تلك التطبيقات أو تشير صراحة إلى صاحب الجهاز، بأنها سوف تطلع على معلومات تخصه ولا تحتاجها تلك التطبيقات في عملها. فمثلا نجد تطبيق الفلاش لايت يطلب السماح له بالحصول على معلومات الموقع الذي يتواجد فيه التلفون! وكذلك التطبيقات الأخرى وبضمنها الألعاب تعلن انها لن تعمل إلا بموافقة الشخص على حصولها على معلوماته الشخصية، ولا يوجد خيار للشخص في استعمال هذه التطبيقات إلا بالموافقة على كل السماحات! حيث ان برامج تشغيل الموبايل مثل "أندرويد"، نصبت بحيث تسمح لها بذلك. وقد اكتشف الناشطون طرقاً لتغيير ذلك النظام بحيث تعمل تلك التطبيقات بدون تلك السماحات، وتسمى الطريقة المعروفة لذلك بـ "روتنك" (Rooting)، ويمكن الاطلاع عليها واستعمالها من خلال البحث على الإنترنت. ونتيجة لتلك الفضيحة للتطبيقات وانتشار الـ "روتنك" تراجعت معظم التطبيقات عن معظم طلباتها للسماحات بالوصول إلى المعلومات، خلال الأسابيع الماضية فقط!
ويذكر الكاتب وخبير النفط فؤاد الأمير أكثر من مرة عند أحاديثه عن تحطيم الصناعة العراقية والمؤسسات العراقية من قبل الاحتلال الأمريكي، إلى أن الأمريكان تعمدوا منع تصليح منظومة الاتصال التلفوني الأرضي لأن التجسس على الاتصالات أسهل كثيراً عند استعمال أجهزة النقال.
وسبق لصديق يعيش في اميركا أن قال لي حين تحدثنا عن "فايبر" الشائع الاستعمال بين العراقيين لمجانية الاتصال به، أن تلك الشركة قد أسسها ضابط في الموساد بعد تركه الخدمة وأن ذلك أمر معلن وليس سري، وكانت اول شركة اتصالات قدمت خدماتها المجانية بدون أية إعلانات تساعدها على تحمل المصاريف وتحقيق الأرباح. ويذكر ايضاً أن من أسس شركة أجهزة كشف المتفجرات المزيفة التي بيعت للعراق كان أيضاً ضابط سي آي أي ترك الخدمة وأسس الشركة كما يبدو ليخدم مؤسسته من خارجها حين تكلف بتحطيم الشعوب بمهمات دموية كما في العراق.
وسبق لي أن كتبت في مقالة قديمة عن فضيحة تجسس إسرائيلي في هولندا، كشفت أن أجهزة التنصت (الرسمية) على الهواتف ليس في هولندا فقط وإنما في معظم اميركا ومعظم دول الاتحاد الأوروبي تعود إلى شركة إسرائيلية. وقد كشفت تلك الحقائق حين تمت محاكمة أحد رجال الأعمال الهولنديين من الأصل التركي بتهم تهريب مخدرات ومخالفات ضريبية وغيرها استنادا إلى اتصالاته التلفونية، ليتبين أن تلك الاتصالات تم تزويرها من قبل إسرائيل في خدمة لها لحكومة تركيا (في فترة حكومة شيلر) ضد الرجل الذي قام بفضح اسرار فساد عديدة للحكومة التركية.
وفي العراق، من الواضح تماماً أن السبب الأول في نجاح الحشد الشعبي في دحر داعش، كان استعمال أجهزة اتصال إيرانية مؤمنة، جاء بها سليماني ومعاونوه معهم، وأنه لولا ذلك فأن كل خططه ستكون مكشوفة لداعش، من خلال أجهزة التنصت في السفارة الأمريكية.
ربما يقول المرء: وما شأني أنا بالتجسس وليس لدي أية معلومات عسكرية او سياسية؟ لماذا يبذلون الجهد للتجسس على إذن؟ وكيف يتعاملون مع كل هذا الكم الهائل من المعلومات إن كانوا يتجسسون على كل الناس؟
وبالنسبة للسؤال الأول فالجواب هو ان المعلومات الشخصية والرأي الشخصي السياسي للمواطن الاعتيادي مهم ايضاً لأجهزة التجسس لأغراض إحصائية وليس للتجسس على ذلك الشخص بالذات. فهم يستطيعون مثلا ان يقدموا النصح والتخطيط لعملائهم في المجال السياسي العراقي (مثل مثال الآلوسي وأياد علاوي وغيرهما) حول مدى استعداد الجمهور العراقي لتقبل طرح العلاقة مع إسرائيل مثلا، أو إن كان من الأفضل لعلاوي أن يقول صراحة أنه قد تعامل مع العديد من أجهزة التجسس، إن كانت تلك معلومة شائعة لا تضيف شيئاً، لكنها توحي بالصراحة، الخ.
كذلك يمكن من خلال تلك المعلومات نصح الحكومة العراقية الذيلية باللحظة المناسبة لاتخاذ قرارات يعارضها الشعب وتصب في خدمة الأمريكان، دون أن تتوقع رد فعل مؤثر.
أما الرد عن السؤال عن كمية المعلومات الهائلة التي يجب التعامل معها فأن ذلك يتم عن طريق الأتمتة باستعمال ما يسمى بـ "برامج العملاء" (Agents) (لا علاقة لها بالعملاء بالمفهوم السياسي) والتي تقوم بجمع وترتيب المعلومات وتقديم الاستنتاجات منها ذاتياً. كذلك فأن تلك المعلومات عن الأشخاص تجمع في قواعد معلومات ضخمة جداً ولا ينظر إليها إلا عند الحاجة. فمثلا إذا ترشح شخص إلى منصب نائب في مجلس النواب، فسيكون بإمكان السفارة أن تستعيد كل معلوماته وتتخذ منه الموقف المناسب لسياستها، بأن تدعم ترشيحه أو تقف بوجهه.
ومن الطبيعي فأن الأمر مختلف بالنسبة للأشخاص العامين والقياديين في الجهات السياسية والأمنية والعسكرية، حيث تستعمل تلك المعلومات ليس فقط عن الشخص ذاته، وإنما أيضاً عن شبكة الاتصالات التي لديه من أقارب وأصدقاء ومعجبين ومؤيدين، للتأثير عليه بالشكل المناسب قدر الإمكان لأميركا وإسرائيل، أو السعي للتخلص منه.
وقد تصل حالات التجسس على الأشخاص العامين شديدي الأهمية، تقنيات غير متداولة للتجسس. فحين سافر السيد السيستاني إلى لندن للعلاج قبل أكثر من عشر سنوات (1)، أثير في ذهني التساؤل: إن كان من الحكمة ان يعالج شخص بأهمية السيستاني في مستشفى في بلد تحت السيطرة التامة للسي آي أي والموساد، وأن يترك لهؤلاء ان يعبثوا بجسمه تحت التخدير. فهناك أجهزة اتصالات صغيرة جداً يمكن زرعها في الجسم ولا يحس الشخص بها، ويمكنها أن ترسل مكان تواجده وربما أيضاً كل ما يقوله أو يدور حوله من حديث! ولا يستبعد أن تجهز تلك الأجهزة بمواد تتلفها عند استلام إشارة معينة، كما انه ليس من المستحيل أن تستعمل لقتل الضحية إن تطلب الأمر، أو إصابتها بالعوق. من المحتمل جداً طبعا أن أي شيء من هذا لم يحدث، لكن علاج أية شخصية مهمة في دولة تحت سيطرة أعداء البلاد أمر يجب تجنبه قدر الإمكان، فحتى حشوة السن قد تستغل أبعد مما يمكننا أن نتخيل، والاحتياط واجب بالتأكيد، ومادام العلاج ممكن في الوطن أو في بلد صديق، فلا مبرر للمخاطرة، ونفس الشيء ينطبق على استعمال الهاتف النقال.
طبيعي ألا تستعمل تلك المعلومات بشكل كبير إلا عند الضرورة القصوى، ولا تستعمل أبداً بشكل مكشوف، لأن مثل هذا الاستعمال يهدد بتحطيم تلك المنظومة حين يعي الناس مستوى خطرها، ولذلك تترك أميركا وإسرائيل خصومها يعملون طويلا دون رد فعل يفضح ما تعرفه عنهم او كيف عرفته، فوجود هؤلاء الأشخاص أيضاً يخدم في تصوير الأمر للمواطن العادي بأن كل شيء على ما يرام وأن الحديث عن التجسس هو موضوع من مواضيع "نظرية المؤامرة". ويصح هذا بشكل خاص في البلدان المتأخرة حيث يقل اطلاع الناس على فضائح التجسس اليومية تقريبا التي تثار في الدول المتقدمة التي تملك إعلاماً لا تسيطر عليه مؤسسات التجسس بشكل كامل.
هل هناك وسيلة لتأمين الحماية للاتصال التلفوني النقال؟ نعم إلى حد ما، وتعتمد على تشفير الكلام بين المتصلين من خلال تطبيقات مجانية وضعها الناشطون على الإنترنت، تجعل تحليلها يستغرق سنوات عديدة حتى بأجهزة الحاسبات المتطورة، وربما نخصص لها مقالة مستقلة في المستقبل. وحتى ذلك الحين فيجب على العراقي أن يتذكر أن كل ما يقوله أو يكتبه على أجهزة الاتصالات وبرامج التواصل الاجتماعي، بل وربما كل ما يكتبه على حاسبته (خاصة إن كان شخصية عامة) يصل مباشرة إلى أجهزة التجسس الأمريكية والإسرائيلية، وأن عدم وجود رد فعل واضح لتلك الأجهزة على بعض تلك المعلومات ليس إلا من باب استمرار حالة الشعور بالأمان المزيف، والضرورية لاستمرار عملية التجسس لتسيير الشعب والبلد إلى المصير الذي يريدونه له، وتوقيت ضرباتهم له بمعرفة مسبقة ودراية برد الفعل المتوقع.
إن كنت تعتقد أن ما جاء في هذه المقالة واقعي، أو بعض ما فيها كان كذلك، فنرجو أن تساهم معنا بالتخفيف من "الفقر" الشديد في الوعي الأمني الذي يبدو أننا نعاني منه، بنشرها في دائرة معارفك واتصالاتك، ولك الشكر.
(1) السيستاني يصل إلى لندن للراحة والعلاج من اضطراب في القلب
http://archive.aawsat.com/details.asp…