هكذا وبكل أسى مرت خمسون عام ونيف كأنها طيف مسرع لايعطينا فرصة للتأمل ولسنا قادرين على أيقاض تلك الروح التي بُعثت في أجسادنا لتلهمنا وتسمو بنا في غياهب الزمن الغائب الا من ساعات وأيام وسنين , تجرد من كونه زمن وأصبح شبح يسلب منا الطفولة لنكون شباب , ويسلب منا الشباب لنكون رجال , فعجائز وأخيراً يسلب الروح فيأكل التراب أجسادنا ونصبح عظام , ولاندري أين تستقر تلك الروح , وهل ستحن الى جسدها , أم تبقى هائمة الى أن تستقر في جسد أخر وبثوب جديد , لانعلم شيئاً سوى أنها ستُحاسب على مافعلت وما قدمت في تلك الرحلة التي تسمى حياة .
ولكن أعذروني هل كنا نملك روحاً , ماهي وكيف عرفناها وهل تواصلنا معها وهل أطلقنا يوماً هواجسها بدون أن نحجزها بذلك الذي نسميه عقلاً , ليقوم بدوره بوضع القيود تلو القيود فننصاع اليه وأخيراً ينتصر ونندب حظنا ونواسي روحنا لاننا لم نطلقها كما تريد هي , وبعد هذه ألافكار والصراع المادي والروحي قررت أن أسترجع الماضي وأحاول أن أتذكر أن كنت يوماً تناسيت أن لي عقل مادي وأني أطلقت لروحي العنان لتسير بي في زمن أضيع بها وتضيع بي ولكن عبثاً حاولت وحاولت ولكني لم أفلح وأخيراً أقتنعت ذاتي كنها ذاتي بأن جسدي أصلاً لم يمتلك روحاً فقد غادرتني لحظة ولادتي في أرض أسموها بلاد ما بين النهرين ( عراق ) .
ماذا أتذكر من طفولتي غير الصراخ والعراك بيني وبين أخوتي من أجل فاكهة أو حلوى , وكيف أقف في الطابور من أجل عشرة قرص من الخبز , هذا اذا لم يكن هناك تدافع والاقوى هو الذي يأخذ الخبز قبل غيره , أتذكر كيف كان البيض يوزع بصورة همجيه بسسب العراك والزحام وكيف أن أخي أستطاع أن يجلب طبقه ولكن البيض تكسر كلهُ , أتذكر كيف أن أبي كان قد أخذ قرض عقاري وكيف يشتعل بيتنا صراخا وعويلاً عند أستحقاق القسط , سرعان ما أصبحنا شبابا فأستفقنا على أعتى طاغية من طواغيت أبليس جثم على كل ما تعنيه الحياة وسلبها , ثمان سنوات من أطول الحروب أخذت مئات الالاف من رجالنا وشبابنا , وكل الذي يأخذونه هو قطعة من قماش ملونة ومرسوماً عليها ثلاث نجمات لم أكن أعرف معناها ولكني عرفت أن أسمه علم , مرت الاعوام الثماني وقد تحملها الشعب , ولم تمر عامان حتى دخلنا في حرب أخرى , هذه المرة كانت ضد تحالف وليس دولة واحدة , ورجع الشباب والرجال الى التجنيد ولم نستطيع أن نقول كلا للحروب , أنتهت الحرب بهزيمة رأيتها بعيني من خلال ضابط أرتمى علينا عند الانسحاب , دُمر البلد وبدأت صفحة العقوبات , سحقاً لمن أقر تلك العقوبات التي ذُلّ بها العراقي من أجل لقمة خبز , تشردَ من تشردَ وهاجر من هاجر , عشر سنوات من أقسى ما يمر به بلد وشعب , تغيرت كل القيم الانسانية والاجتماعية وأصبح العراقي مجرداً عن كل ما يتصل بالانسانيه من حضارة وتقدم , فقط جسد يحاول أن يعيش لا أن يحيا .
أُحتلَّ العراق هذه المرة وتهدم كل شئ وتخلصنا من الطاغية , وتوهمنا أن الاوان قد آن لنطلق تلك الروح التي كانت في غيبوبة في أعماق أجسادنا المتعبه والمنهكة , ولكنها لم تستفيق فقد لفظت أنفاسها الاخيرة وغادرت وصرخت في زمن الضياع , أنتم يا أجساد لاتستحقون أن تكون لكم روح كباقي البشر , تَعلقتُ بروحي وقلت لها لايحق لك أن تغادري جسدي فلم يأذنُ لكِ من خلقكِ , قالت سنحتكم للحكماء , قلت بلى على الرغم أني لا أعرف من هؤلاء , فأبحرت في عالم الخيال وتقدم مني الحكماء وسألوني هل فعلت كذا ولكنهم لم يعطوني فرصة للجواب مع أني لا أملك الجواب , تسارعت الاسئلة واشتد الصياح في رأسي ووضعت يدي على رأسي وقلت كفى ... كفى , بتُّ لا أريدها فلم أكن أعرفها على كل حال , قال الحكماء وكأنهم أصدروا حكمهم علي ,,, ( الذنبُ ذنبُك فأنت عراقي ) تردد هذا الحكم بصوت عالي وأخذ صداه يتكرر ويتكرر حتى أيقظني ولدي ,,, بابا بابا لقد تعاركت مع أحد ألاولاد ,,, تنبهت جيداً وقلت له ( الذنبُ ذنبُك فأنت عراقي ) قال لي ماذا تقول , قلت له لاشئ مجرد كلام بلا حروف كحياتنا التي بلا روح .
مقالات اخرى للكاتب