في مقاهي أيام زمان في بغداد ومدن عراقية أخرى كانت المواقع الستراتيجية مخصصة لكبار القوم ، وعادة ما تكون في الواجهة وبعيدة عن ضوضاء الزبائن ، ودخان الناركيلة ، وليس من حق احد أن يتجاوز حدوده ، ويغامر بالجلوس على "تخت الباشا" ويطلب الجاي او الحامض ، وفي حال تجاوز احد الزبائن الخطوط الحمر وابدى رغبته في "احتلال التخت" ، للحصول على استرخاء والشعور بالانتماء الى طبقة اجتماعية مرفهة لدقائق معدودة ، يبدي الأخرون اعتراضهم على هذا التصرف وفي مقدمتهم صاحب المقهى ، فيحبطون أحلام الزبون الراغب في تجاوز الفوارق الطبقية بعبارات الردع والمنع ، والتوبيخ ، وإجباره على الجلوس على تخت آخر مجرد من الحصير قرب الوجاغ لانه المكان الوحيد الملائم لشخصه ، وموقعه الاجتماعي والاقتصادي ، فيستجيب الزبون للأوامر ، ومع نفث دخان سيجارته من نوع اللف ، يظل نظره متجها لتخت الباشا، ثم يدخل في "صفنات" طويلة في التخطيط لتحقيق حلمه في القضاء على التباين الطبقي بطريقته الخاصة .
يحكى ان احد الباشوات عندما يجلس على التخت ، ينفش ريشه مثل الطاووس ، ويطلب من سائق عربته الربل "العربنجي " الوقوف بجواره في الجهة الأخرى من التخت ليرد على تحيات الزبائن بدلا عن الباشا ، المنشغل باحتساء الشاي باستكان مذهب ، خصص له شخصيا ، ويحظر على الآخرين استخدامه حتى لو كان من كبار الباشوات ، وأثناء مراقبة الزبون القابع بجوار الوجاغ لتصرفات كبير القوم ، ينتابه الشعور بان القضية بحاجة الى "موقف ثوري" لتكون تخوت المقاهي مشاعة للجميع .
عندما شهدت البلاد اكثر من مرة تنفيذ انقلاب عسكري وتولي "أحزاب ثورية " السلطة ، تخلى الرجل عن حلمه في الجلوس على تخت الباشا ، وترك الأمر للأجيال المقبلة على الرغم من قناعته بان التخوت الكبيرة اي المناصب المهمة ، شغلها من لا يستحقها بموجب العمل بمبدأ "الرجل المناسب في التخت المناسب " وكغيره من العراقيين الحالمين بوضع حد للصراع السياسي فارق الحياة ، تاركا إبطال الساحة السياسية في حلبة المصارعة يتبادلون اللكمات والدفرات وشتى الأساليب الأخرى للوصول الى تخت السلطة على الرغم من ان الدستور اشترط التداول السلمي للسلطة عبر صناديق الاقتراع .
مصيبة الشعب العراقي كانت ومازالت تتمثل بسيل لعاب بعض الأطراف للوصول الى السلطة ، والدرس الديمقراطي الذي بدأ بعد العام 2003 لم يفهمه بعد من شارك في العملية السياسية واسهم في كتابة الدستور، واعلن سعيه وبذل جهوده لإرساء قواعد دولة المؤسسات والقانون ، وكل جهة تدعي أنها اكثر ديمقراطية من غيرها ، وانها الممثل الشرعي للشعب العراقي لتمسكها بالمشروع ، ولكثرة المشاريع ، والبرامج ، والادعاءات بتحقيق المستقبل الزاهر ، والانتقال الى مصاف الدول المتحضرة ، يظل هاجس التخت حاضرا في أذهان الكثير من السياسيين الراغبين في احتساء الشاي باستكان مذهب ، واستخدام شخص يقود سيارة ذات الدفع الرباعي للرد على تحيات الجماهير ، وصبحكم الله بالخير مولانا .
مقالات اخرى للكاتب