كنت أيامها في الصف السادس الابتدائي، وفي صباحٍ شتوي بارد وقفت بين يدي مدير مدرستنا كمتّهم بالمشاركة في جريمة لست طرفاً فيها!. جمع المعلم صفّنا الدراسي بساحة المدرسة، ليشاركنا قسوة الصقيع، معاتباً ودامع الصوت والنبرة، لأن تلميذاً مشاكساً صدم امرأة مسنّة بدراجته وهو منشغل بمزاحه مع زملائه. المرأة لم تسبّ الطالب وهو يتركها على حالها متوارياً، لكنها بقيت تردّد الشتائم لمن (علّمَ) هذا الطالب و(درَّسه) من دون أن يلقنه الدرس الأهم!. كان المدير يجهش حزناً، لا لأنه تعرّض إلى الشتيمة، بل لإحساسه بوجود خلل كبير، وشعرنا على صغر أعمارنا بكلماته، وهو يتلعثم همّاً قائلا: كنت أظن أنكم قدوة لمن دونكم سنّاً، وها عليكم تحمّل العار جميعاً الآن؛عار سنة دراسية كاملة، أو عار مهنية سنواتي كلها!.
الحكاية أعلاه، ربما لا تصلح للمقارنة والحديث بموضوعية وتجرّد عن ملامة مؤسسة ما بكاملها، جراء إساءة فردية، أو تقصير شخصي ضمن كادر عام، خاصة حين يكون المثال مقارنة بما يجري في مشروع الدولة المدنية، مع تفريق بينها وبين الحكومة كسلطة فاعلة، فالحكم سيكون على الحكومة جراء عمل المؤسسات التي تنشأ فيها كواقع عملي يمثلها، ويركّز لقاعدة دولة تبنى بتراكم التجارب والخبرات، كمبادئ متوائمة بمجملها تحقق شروط الدولة المنشودة.
إن الواقع السياسي المحلي الشائك عصي على كل مثال، فالنموذج العراقي مختلف بطبيعة مآله وآماله عن أي مقارنة، و(مدير المدرسة) في المثال السابق لا يمكن أن يكون في حال رئيس الجمهورية أو رئيس الوزراء، فالوضع المعقد للتركيبة المهنية في العمل الحكومي، من أعلى منصب والى آخر موظف في أي وزارة محكوم بمنظومة خارج سيطرة الانقياد بشخص واحد، ولو أردنا لها أن تكون هكذا لوجدنا من سيتهم هذه الفكرة بالترويج لصناعة دكتاتوريات جديدة، وآليات حكم خارج البعد المدني، وإنْ تُرك الأمر على ما هو عليه الآن، لوجدنا من يلوم ويعنّف ويشتم بحجّة الفوضى والتنظير لها. ومن الإنصاف والعدل الاعتراف في مثل هذا الحال بتبعية الكثير من المسؤولين لجهاتهم السياسية، وليس للحكومة أو الدولة أصلاً، والبحث عن حل لهذه المعضلة سيكون صعباً، فلكلّ حكومة أعقبت التغيير ظروف تشكيلها وتفاعلاتها مع الأحداث، ونتائج تلك التفاعلات وانعكاسها على الوضع العام، وهي بهذا لم تضع لبنات المؤسسات التي تحدثنا عن دورها في بناء الدولة، وكلها في جهة التقصير لأنها شكلت طبقات سياسية فرضت حضوراً عابراً في الواقع ولم تنجز للدولة/ المستقبل أي شيء. والطامة الكبرى أن تمرّ الكثير من الجرائم وتغلق ملفات لحكومات سابقة، وتسقط بالتقادم، لتنشغل الحكومة الجديدة بتبعات ما لحقها من متراكم ومهمل سابق، وتصبح في طور الملامة، ولا تجد متسعاً للحديث عن السبب الأصلي للمشكلة، كدرس للدولة.
مقالات اخرى للكاتب