في أمريكا الساحتان ,المحلية والدولية, مفتوحتان على بعضهما. ومنذ أول التاريخ حتى يومنا هذا, كلما تتسع الإمبراطوريات تكون عرضة لتأثير ما يحدث خارجها, ويكون هذا واحدا من أسباب إنهياراتها أو تقهقرها وإنغلاقها على نفسها.
أمريكا ليست إستثناء على هذا الصعيد, بل لعلها من أكثر الإمبراطوريات على مدار التاريخ عرضة لذلك. لقد ادت المستحدثات على الصعيد التقني إلى التسريع بنقل الخبر, فما كان ينقله الجنود العائدون من جبهات القتال البعيدة في عام صار ينقل في لحظته, خبرا مصورا ومسموعا ومكتوبا, واليوم تتراجع إلى حد ما القيمة الإستراتيجية لوجود أميركا بعيدة عن بقية العالم, ومسيجة بمحيطين, فالعالم الذي قادت عملية تصغيره جعلها في القلب منه.
في الحرب العالمية الثانية, كان هناك من نصح بضرورة أن تبقى أميركا بعيدة عن التدخل المباشر في الصراع, لكن الأمر لم يطل كثيرا. طائرات الكاميكاز اليابانية كانت جاهزة لكي تؤكد على سقوط نظرية العزلة. في أقل من ساعة تحول الأسطول الأمريكي الجبار والذي كان راسيا على شواطئ بيرل هاربر إلى مجرد حديد خردة, ومن يومها ونظرية العزلة تعيش في العزلة.
غالبا ما يشار إلى ان الجمهوريين هم أصحاب نظرية القوة للقضاء على اي خطر يهدد مصالح أمريكا الإقتصادية أو نفوذها السياسي أو أمنها القومي. في المقابل قيل عن الديمقراطيين انهم أصحاب تهدئة اللعبة وإنهم حَمام السياسة الأمريكية مقابل صقورها الجمهوريين. لكن علينا أن نتذكر أن (كندي) لم يكن جمهوريا. وهو, لا غيره, الذي كاد أن يلقي العالم برمته في مهاوي الردى أثناء أزمة الصواريخ الروسية في كوبا بداية الستينات من القرن الماضي حينما وضع يده على الزر النووي.
لكن ثمة جمهوري سيخبرك أن كندي الديمقراطي لم يكن لديه وقتها اي خيار آخر, ولأن كوبا على مرمى حجر من الأراضي الأمريكية فقد كان بإمكان الصواريخ السوفيتية أن تضع الأمن الأمريكي القومي كله في فم المدفع. معناه أن ذلك المشهد التاريخي لا يعتمد عليه لإعادة تصنيف القوى, وسوف يظل الجمهوريون, المتمسكون بنظرية القوة والردع الجاهز والفوري صقورا أما الديمقراطيون المتمسكون بالقوة الناعمة فسيظلون حمائم.
المناكفات السياسية في الساحة الإنتخابية الأمريكية غالبا ما تدور حول هذه الموضوعة. الديمقراطيون يستغلون تعثر سياسة الرئيس الجمهوري على الصعيد العسكري الخارجي, وغالبا ما يجعلهم ذلك يحصلون على ذلك المنصب الرئاسي الذي اتعبه الجمهوريون, أما ورقتهم الرابحة فغالبا ما تحتوي على عناوين تؤكد على ضرورة ان تكون الأولوية للإنجاز الإقتصادي والإجتماعي. ولأن النصر له ألف أب والهزيمة لها أب واحد فإن الديمقراطين لن يحتاجوا إلى فحوصات مختبرية للتأكيد على إنتساب الهزيمة إلى أبيها الجمهوري, إضافة إلى ما تضيفه الأزمات الإقتصادية التي تترتب على الحروب من أرصدة تتغلب حتى على قيمة ما يمكن ان يؤسس له نصر جمهوري ما في حرب ما.
أفضل مثال رأيناه حين حقق بوش الأب إنتصارا عسكريا وسياسيا كبيرا يوم قاد التحالف الدولي في الحرب ضد صدام حسين بعد غزو الكويت, لكن ذلك النصر لم يمنحه قدرة التفوق على منافسه الديمقراطي كلينتون الذي حقق فوزه على اساس برنامجه الإقتصادي الواعد فلم يحضى بوش بالتجديد لولايته.
الحالة الإقتصادية الداخلية من جهة والقوة التي هدفها الحفاظ على الإمتياز العسكري والسياسي الأمريكي في العالم من جهة أخرى يؤسسان للعبة التنافس الإنتخابية. حينما يكون هناك خلل كبير في احدهما يتقدم أحد المنافسين على خصمه إذا عرف كيف يُشَغُّل ذلك الخلل ضمن معادلة لا تهمل قيمة الثاني وتعرف كيف تُفَعِّلَهما معا ضمن جدلية ذكية.
لقد حقق كارتر الديمقراطي فوزه الإنتخابي يوم إكتسح خصمه الجمهوري فورد الذي كان قد ورث تركة جمهورية متعبة من رفيقه الجمهوري نيكسون قوامها الهزيمة في فيتنام إضافة إلى الفضيحة الإخلاقية العاصفة التي تركتها قضية ووترغيت. ولم يكن مُزارع الفستق كارتر بحاجة إلى جهد كبير للحوار مع الناخب الأمريكي الذي كانت اتعبته الحرب كثيرا على صعيد إقتصادي وإجتماعي وآذاه كثيرا الخروج الجمهوري على اخلاقية التنافس الإنتخابي ففضل رئيسا عرف كيف يتعامل مع مسيحية المجتمع ويؤسس في نفس الوقت للسلم الذي يزيح من ذهن الناخب منظر آلاف التوابيت القادمة من ساحة الحرب في فيتنام وبصحبتهم عشرات الألوف من الجنود المعاقين جسديا والمعطلين نفسيا.
لكن كارتر الديمقراطي لم يستمر سوى لولاية واحدة. لقد خسر منصبه لصالح الجمهوري ريغان الذي كان اكد في برنامجه الإنتخابي على ضرورة إستعادة الهيبة الأمريكية التي كان أهانها الإيرانيون حينما قاموا بإحتجاز 52 رهينة كانوا يشكلون مجموع الدبلوماسيين العاملين في السفارة الأمركية في طهران. وقيل وقتها أن الجمهوريين وعدوا بتنفيذ المطالب الإيرانية فيما لو تحقق لهم الفوز على الديمقراطيين. لقد طلبوا من الإيرانيين تمديد فترة الإحتجاز التي أظهرت الإدارة الديمقراطية بمظهر العاجز المشلول, وحينما تحقق لريغان الفوز أنهى الإيرانيون فورا إحتجازهم للرهائن الذي إستمر لفترة 444 يوما.
الرئيس الحالي أوباما هو واحد من أفضل الأمثلة على قضية التناوبية السياسية الأمريكية فهو لم يربح منصبه ويتغلب بشكل ساحق على منافسه الجمهوري إلا على أساس برنامج السلام والإنسحاب من الأراضي العراقية التي أنهكت أمريكا بشرا وأخلاقا وإقتصاد.
لعبة إستعادة الهيبة الأمريكية هي لعبة يجيدها الجمهوريون كثيرا وغالبا ما يكون هناك سؤال حول ما إذا كانت هناك يد جمهورية وراء بعض الأحداث الساخنة التي يمكن أن تمهد لتسخين اللعبة.
لقد تعب أوباما كثيرا في سبيل الحفاظ على إبقاء أمريكا بعيدا عن التورط العسكري في الحروب, وكان أفضل أداء له هو قدرته على السيطرة على الموقف يوم ظل بعيدا عن التدخل المباشر في الحرب في سوريا. لكن إستعمال الأسلحة الكيمياوية الذي اودى بحياة الكثير من السوريين الأبرياء سرعان ما دفعه في مواجهة ذلك الخانق بمحاولة البقاء متوازنا على حبله الرفيع وهو التهديد بالقوة والمناورة بإنتظار رد الفعل السوري. وقد دفع الموقف ذاك إلى التساؤل عما إذا كانت هناك صلة بين حدث إستعمال الكيمياوي وبين لعبة الإستغماية التي تدور بين الحزبين الرئيسين. واليوم فإن تصعيد داعش لمجموعة الجرائم التي ترتكبها, والذي توجته بتحد مباشر لأمريكا ذاتها بعد ذبح الرهينتين, يعيد طرح ذلك التساؤل نفسه, اي عما إذا كانت هناك علاقة لحادثة ذبح الرهينتين بتسخين الساحة الإنتخابية المزمع نصب سرادقها بعد سنة.
ربما يؤمن البعض بان سيناريوهات كهذه لا وجود حقيقي لها على الأرض وإنما هي موجودة في عقول اصحاب نظرية المؤامرة فقط, لكن الجهل بقوانين الألعاب القذرة لا يحمي المغفلين وإن من النباهة الإعتقاد بأن جزء اساسيا من عمل أجهزة المخابرات إنما ينصب في هذا الإتجاه.
بغض النظر عن وجود ذلك من عدمه لا يمكن نكران أن إعلان حالة الحرب الأمريكية ضد داعش لها جدزرها في لعبة الإستغماية, وإذا ما صح أن أوباما والديمقراطيين قد أجبروا على أن يشاركوا اللعبة, فذلك يعني ان مساحة هذه اللعبة ستبقى إلى حد كبير محكومة بقوانين اللعبة ذاتها, وإلى أن تحين معركة الإنتخابات الساخنة فإن عملية الكر والفر ستبقى هي سيدة الموقف مما يجعل الحاجة إلى داعش قائمة أو متراجعة تبعا لمتغيرات اللعبة ذاتها.
مقالات اخرى للكاتب