لا اريد الخوض في الكذب كقيمة خُصّ بها الإنسان دون الحيوان كما يؤكد علماء النفس في حديثهم عن سايكولوجية الكذب. ولا انوي الحديث في الوانه التي تتدرج من الأبيض حتى الأسود. الذي سأقف عنده هو قول الناس "حدث العاقل بما لا يليق فان صدق فلا عقل له". لذا سأعتمده قاعدة لأحكم على ان العيب ليس في الكاذب بل في من يصدقه. يأتيك من يسمي نفسه "سياسي"، وهو آخر من يمكن عده في دنيا السياسة والقيادة، ليصنع لك "من الشط مرك والزور خواشيك". المشكلة انه بدلا من ان يخرج صفر اليدين، يحصل على أصوات انتخابية فلكية. هنا تستنتج اننا في العراق نعيش ازمة عقل كارثية.
مثل هذا النوع قد تجده بين بسطاء الناس أيضا. وقد تجده أيضا عند المشتغلين في دنيا الادب والفن والثقافة من كل الأصناف خاصة بين من صاروا او صيرتهم الاقدار الغبية نجوما. في نيسان الماضي قدمت قناة "أم بي سي" المصرية حلقة ممتعة عن الكذب في حياة النجوم. لو شاهدتها ستشعر ان الكذب ضرورة لإدامة النجومية. لم اسمع من أي منهم، رغم اكاذيبهم الفاقعة، ادعاء بطولات ونضالات ثورية كما يفعل بعض "نجومنا". فعندنا لا غرابة ان تسمع نجما عراقيا يغرد وكأنه أبو الثوار لحد ان جيفارا نفسه يبدو تلميذا صغيرا في مدرسة تاريخه النضالي! على أية قاعدة يستند مثل هؤلاء؟ الأولى استغلال عقول المعجبين بهم التي عطلها الانبهار عن العمل، والثانية استشهادهم بشاهد ذي اسم معروف مات قريبا.
لو تأتيك هذه الحركات من انسان بسيط ستجد لها أكثر من تفسير بريء. لم يشعر الناس بقريتنا ان بائع الدجاج الذي صار يبكي ليلة موت الملك فيصل الثاني كان يضحك عليهم بل على نفسه. قصة بائع الدجاج البسيط انه عندما شاع خبر مقتل الملك رحمه الله صفق يديه متحسرا. ليش؟ مات الملك واطلبه ثلاث دجاجات! ربما حسبوا انه أراد ان يمتعهم بحكايات خيالية. كل ما فعلوه انهم لقبوه "الطيّار". قد يكون هذا الوصف ذا علاقة بما صار يطلقه العراقيون على الكذاب في زمن الحصار: "يطيّر فياله".
لكن ماذا نقول عن شاعر بعد وفاة وحيدة خليل بليلتين صرح بان المرحومة عند ما شاهدته وهو ابن العاشرة من العمر قالت له "أتوقع لك أنك ستصير شاعرا كبيرا". زين ليش ما حجيت من جانت عدله؟ هكذا سأله شاعر آخر فظل يمتمت.
قبل ليلتين نقل لي جمع من الأصدقاء وبطونهم تكاد تنشق من الضحك قولا لأحدهم يدعي فيه انه وصل الى حبل المشنقة لولا تدخل الفنان فلان عند الجلاد (كلاهما ميت). طيب اين كان هذا الكلام يوم كان المرحوم "المخلّص" حيا ولم يمت الا قبل أيام؟
مقالات اخرى للكاتب