شكلت الهجرة إحدى الركائز الأساسية لنشوء المجتمعات الإنسانية في مرحلة فجر البشرية ،وساهمت في تحديد طبيعة الصيغة الحالية لها ، حيث مرت البشرية بعدة مخاضات ومراحل أنتجت الصورة التي نرى عالمنا عليها اليوم ، من الناحيتين الاثنية والعرقية ، وأصبحت جزء من مثيولوجيا الشعوب ..ذكر المسعودي في كتابه ( مروج الذهب الجزء الأول )..ان اول هجرة جماعية شهدتها البشرية بعد الطوفان الكبير واستقرار ما تبقى منها في ارض بابل القديمة ، والذي عجز المسعودي عن تحديد مكانها الجغرافي، وأين تقع هي الآن .. حيث يسرد قصة هجرة الناس على شكل تجمعات بشرية تبعا للانتماء العرقي لأحد أبناء نبي الله نوح بعد انهيار صرح بابل نتيجة زلزال عظيم ، فتبلبلت السنة الناس ونطقوا بلغات مختلفة وانتشروا في اقصاع الأرض ، وكانت هذه الهجرة السبب الرئيسي في التنوع العرقي والثقافي القائم بين دول وشعوب العالم ، حسب نظرية المسعودي ..وبغض النظر عن مدى دقة هذا الطرح الا ان هنالك حقيقة تقول ان اغلب دول العالم الان هي نتاج لهجرات منتظمة حدثت في فترات متفاوتة من التاريخ تقف ورائها أسباب موضوعية .. كما يذكر ول ديوراينت في موسوعته (قصة الحضارة ) ومن أهم هذه الأسباب .. البحث عن الأراضي الخصبة والحياة الآمنة ، كهجرة العرب من جنوب الجزيرة العربية الى شمالها ومن ثم الى العراق ومصر وبلاد الشام وشمال إفريقيا بعد الفتح الإسلامي ، وهجرة القبائل الجرمانية إلى بريطانيا الذين سموا بالقبائل (الانجلوسكسونية ) في القرن الخامس الميلادي .. او كانت نتيجة لصراع القوة والنفوذ بين الاثنيات والأعراق والقبائل والتي اطلق عليها عالم الاجتماع الانكليزي ارنولد توينبي (أمثولة القبائل ) كالهجرة التي حدثت بعد استقلال الهند عن التاج البريطاني عام 1947 ميلادي بسبب الصراع الاثني الدامي بين الأغلبية الهندوسية والاقلية المسلمة انذاك وتعد هذه الهجرة من اكبر الهجرات التي حصلت في القرن العشرين نتج عنها نشوء دولة باكستان المسلمة وانفصالها عن الهند .
كما وان السماء اتخذت من الهجرة وسيلة لإعادة إحياء مفاهيم اديانها وبث الحياة فيها من جديد ، عندما لاقت هذه الرسالات السماوية الرفض والازدراء في المجتمعات التي ولدت فيها .. كما في قصة أنبياء الله ( نوح وإبراهيم وموسى ويونس) عليهم السلام ، حيث استطاع هؤلاء الأنبياء من إيجاد ارض خصبة لنشر مفاهيم دياناتهم وعقيدتهم عن طريق هجرتهم لمجتمعاتهم التي واجهت هذه المفاهيم الجديدة بثورة من الرفض .. الا ان مفهوم الهجرة شكل عنصرا مهما وحيويا في الإسلام دونا عن الديانات الأخرى ، وساهمت هذه الحركة الإنسانية في ترسيخه وانتشاره في ارض الجزيرة العربية من خلال هجرتين شكلتا انعطافة كبيرة في مسيرته ، هما هجرة بعض المسلمين الأوائل إلى الحبشة والأخرى هجرة النبي محمد (ص ) إلى يثرب ومنها بدأت الانطلاقة الحقيقية للإسلام كعقيدة تجد لها حيزا في نشر تعاليمها والعمل بها بحرية دون خوف او وجل .. وقد خاطب الله تعالى المستضعفين في الأرض في سورة النساء (الم تكن ارض الله واسعة فتهاجروا فيها ) .
ومن هنا يتبين لنا ان الهجرة بمفهومها العالم ناتجة من عاملين رئيسيين .. الأول البحث عن آفاق جديدة في الحياة تساعد على ديمومة العطاء الإنساني ونموه.. والعامل الآخر الهروب من واقع سيئ يعجز الإنسان فرد كان او جماعات عن مواجهته أو إصلاحه ..والعامل الأول هو أكثر ايجابية من الآخر .
في تاريخنا العربي الحديث حدثت هجرة من نوع آخر أبان سيطرة الدولة العثمانية على الشرق الأوسط في مطلع القرن السادس عشر الميلادي ، وهي هجرة الجالية المسيحية من بلاد الشام الى أمريكا الجنوبية نتيجة الاضطهاد الديني الذي عانته من قبل سلطنة الخلافة العثمانية التي كانت تحكم باسم الإسلام وتطرح نفسها على أنها الحامية له والمدافعة عنه بوجه المعتقدات الأخرى ،ويقدر عدد المسيحيين من أصول شرقية في هذه القارة بحوالي اثنا عشر مليون نسمة حاليا .. قد ذابوا وأصبحوا جزء لا يتجزأ من المنظومة الاجتماعية والقيمية لمجتمعاتها .
في العراق حدثت نوعان من الهجرة في مطلع وأواسط القرن العشرين ، الأولى كانت هجرة خارجية ليهود العراق الى فلسطين والتي اتخذت شكلان الأول كان طوعيا بدوافع دينية وقومية لاعتقادهم ان فلسطين هي ارض الميعاد التي بشر بها أنبيائهم ، والثاني كانت قسريا بقرار من الحكومة العراقية التي كان يرأسها انذاك توفيق السويدي حين أصدرت قرارا بترحيلهم إجباريا من العراق عام 1950 .. اما الهجرة الثانية التي شهدها العراق فكانت داخلية من الريف الى المدينة ،التي حدثت في منتصف القرن الماضي وكان لها عدة اسباب جوهرية منها (ظلم الإقطاع في مدن الجنوب وسطوته على الفلاحين الفقراء ومصادرة حريتهم وإرادتهم لصالح ، انعدام الخدمات الصحية والتعليمية في مناطق الجنوب واقتصارها على المدن الكبيرة ،محاولة الكثيرين منهم لتغيير واقعهم الاجتماعي والمعاشي نحو الأفضل ) .. وكانت للعاصمة بغداد ومحافظة البصرة النصيب الأكبر من هذه الهجرة .. وكان لكلا الهجرتين تأثيرا كبيرا في تغيير الواقع الاجتماعي والديموغرافي في العراق ، وساهمت الهجرة من الريف إلى المدينة بخلق واقع جديد فرض نفسه على الجميع كان لابد للحكومات المتعاقبة على التعامل معه على إنه أمر واقع وهذا ما حدث بالفعل وذلك بقيام الزعيم الراحل عبد الكريم قاسم بتوطين هؤلاء الفقراء في المدن التي هاجروا إليها وسكنوا على إطرافها في تجمعات سكانية غلبت عليها بيوت الصفيح في ( الشاكرية والميزرة والوشاش ) وذلك بمنحهم الأراضي والدور السكنية ..الا ان هذه الهجرة حملت بعدا ايجابيا تمثل بدخول دماء جديدة على الواقع الاجتماعي لتلك المدن ساهمت في تحديد ملامح النظام السياسي والاقتصادي لها وللعراق بصورة عامة .
غير إن اخطر أنواع هذه الهجرات والتي حملت طابعا سلبيا على المدى البعيد هي هجرة العراقيين إلى أوربا والتي انطلقت بعد حرب الخليج الثانية عام 1991 ميلادي ، كانت دوافعها الرئيسية هي ضنك الحياة بفعل الحصار الاقتصادي الذي فرض على العراق كأحد نتائج هذه الحرب التي أعادت العراق إلى عالم ما قبل الصناعة ، ومتاجرة النظام السابق بهذه العقوبة المفروضة دوليا لنيل مكاسب له ولنظامه ، إضافة إلى حالة الخوف التي تولدت لدى الكثير من العراقيين بعد القسوة التي أبداها هذا النظام في مواجهة انتفاضة آذار التي حدثت بعد خروج القوات العراقية من الكويت .. فنزف العراق نتيجة هذه الهجرة خيرة أبنائه من أصحاب الكفاءات العلمية والأكاديمية حتى وصلت أرقام المهاجرين إلى مئات الآلاف ، وكان الكثير من العراقيين يأملون خيرا بالتغيير الذي حصل بعد التاسع من نيسان عام 2003 وسقوط الصنم الذي كانت لسياساته الخاطئة والظالمة الأثر الأكبر في حدوث تلك الهجرة ، وتوقعوا ان من الحكومات التي تشكلت بعد هذا الحدث المهم والكبير في تاريخ العراق الحديث ، ان تعمل على إحداث هجرة معاكسة تؤدي إلى استقطاب وعودة هذه الكفاءات مرة أخرى إلى العراق للمساهمة في بنائه بعد سنين طويلة من الحروب والانتكاسات جعلت من العراق عبارة عن قرية كبيرة .. لكن الذي حدث إن الأحزاب التي شكلت تلك الحكومات انشغلت عن العراق وشعبه بالترتيب لوضعها السياسي والاقتصادي والعمل على ضمان امتيازاتها التي منحتها هي لنفسها على حساب المواطن البسيط ، وعملت على إذكاء النزاعات الطائفية والعرقية بين مكونات المجتمع العراقي ، لغرض البقاء في السلطة ونهب ثروات البلد ، بعد ان طرحت نفسها على انها الممثل والحامي للثوابت الدينية التي يؤمن بها جمهورها ، وهذا بدوره أدى إلى استشراء الفساد الإداري والمالي بكل صوره وأشكاله ، وجعل الشعب فريسة سهلة للإرهاب ، في غياب واضح لكل ملامح الدولة ، مما ولد حالة من الياس لدى شريحة واسعة من الشباب ودعاهم الى التفكير بالهجرة إلى عالم استنتجوا من خلال تجربتهم المريرة في السنوات القليلة الماضية بأنه في جميع الأحوال سيكون أفضل من العيش في بلدهم الأم .. ومما يثير الاستغراب هو إن الهجرة الجديدة لأبنائنا تحولت إلى حمى اجتاحت قطاعات واسعة من هذه الشريحة المهمة وفي أصعب الظروف التي يمر بها العراق كونه الآن في مواجهة مفتوحة مع الإرهاب ..والأكثر غرابة هو حجم الترحيب الذي ابدته بعض الدول الغربية لاستقبال هؤلاء اللاجئين .. مما لا يدع للشك ان الذي يحدث هو فصل من مؤامرة كبيرة بدأت منذ عقود طويلة للنيل من العراق وشعبه .. الحكومة الآن عاجزة على أن تفعل أي شيء لتدارك تداعيات هذه الظاهرة الخطيرة على مجتمعنا ، كونها لا تمتلك عصى سحرية لتغيير الواقع السيئ الذي نعيشه الآن ، ونزيف الهجرة مستمر وعلى أشده .. والسؤال هنا هل سيمتلك العراق مستقبلا القدرة على إحداث هجرة عكسية تمكنه من استعادتهم مرة أخرى ..؟.
اليأس من المستقبل هو رفيق أبنائنا المهاجرين إلى الغرب في سعيهم للحصول على حياة أفضل في البلدان الأوربية ، التي سحرتهم بتطورها ورقيها واحترام الإنسان فيها ، وان ما يحدث هو حالة من الهروب إلى الأمام ، وان جيل سينشئ في السنوات القليلة القادمة من العراقيين وسط هذه المجتمعات سيستوعب ويتفاعل مع جميع القيم والمفاهيم الاجتماعية السائدة هناك ، والتي هي بطبعها غريبة وبعيدة كل البعد عن قيمنا الإسلامية الشرقية ، وهنا تكمن المشكلة الحقيقية .
ان عملية التغريب التي سيفرضها الواقع على أبنائنا في تلك البلدان ستجعل من الصعوبة بمكان أن نعيدهم إلى أحضان الوطن ، وان الأجيال المتعاقبة منهم سوف تذوب كليا في تلك المجتمعات وتتحول إلى جزء منها ، وتحدث لديهم حالة من الانسلاخ ألقسري عن جذورهم .. إذن المجتمع العراقي أمام مشكلة حقيقية تتطلب حلولا جذرية وانية والتي أهمها .. القضاء على البطالة وتوفير فرص العمل للجميع وتشجيع الاستثمار والقطاع الخاص لاستيعاب اكبر عدد من الأيدي العاملة ، الاهتمام بالمبادرة الفردية وتنميتها واحتضانها من قبل الدولة ، جعل الإنسان هو الغاية الاسمي وتوفير الحياة الحرة الكريمة له ، إعادة الثقة لفئة الشباب في نظامهم السياسي عن طريق إحداث إصلاحات حقيقية لتغيير الواقع السيئ ، وضع خارطة طريق لاحداث تغييرات فعلية على ارض الواقع من الناحيتين السياسية والاقتصادية .. هذه الحلول وغيرها الكثير ستساعد بشكل أو بآخر على تقنين هذه الظاهرة وتحجيمها والحفاظ على ما تبقى من هذه الثروة المهدورة .
مقالات اخرى للكاتب