تُرفض الأشياء حين يكون طرحها بعيدا عن الواقع ، ويتأكد الرفض فيما إذا تجرد الطرح عن الأدلة و البراهين التي تسند الأفكار المطروحة ، وفي عالم الجدال و النقاش تتصارع الأفكار المتناقضة ويبقى تقدم السبق لحساب فكرةٍ على أخرى بحسب قوة الأدلة التي تؤيد فكرةً أو ضعفها ، وهناك من يحاول الالتفاف على هذه الأدلة ليضعفها لتكون فكرته هي الأولى بالقبول ، ويحتل المنهج الانتقائي بحسب ما أرى المرتبة الأولى في تشويه الأفكار التي لايرغب بظهورها ، لأن ظهورها بالمنظر الصحيح و اللائق بها يشكل تهديدا و نقضًا للأفكار المعارضة لها .
والانتقائية ليست إلا اقتطاع جزءًا من كل يغدو هذا الجزء مشوها فاقدا لقبول العقل خارج السياق اللغوي و الزمكاني الذي ورد فيه و انتسب به إلى ذلك الكل ، وهذا عين ما تعرض له الإسلام من قبل مناوئيه من الملحدين و العلمانيين الذين يرونه عقبةً كؤود أمام طموحاتهم المادية ، فهم في قراءتهم للنصوص الإسلامية التي يُعرض في ضوئها الفكر الإسلامي الأصيل يأخذون مقطعا من آية قرآنية ويحكمون من خلال دلالتها الجزئية على مباديء الإسلام وأصوله .
ومن ذلك استهدافهم تقويض المشروع الإسلامي بأنه ليس مشروعًا إنسانيًا ، بل هو وحسب نظرهم لايمتلك المؤهلات التي من شأنها إسعاد الإنسان ، لأنه لايتعامل بإنسانية إلا مع المسلمين أما المشركون فهم خارج حدود الإنسانية فلايحسن توجيه الخطاب إليهم ، متكئين بذلك على فهمهم لبعض النصوص المبتسرة ، ولايوجد أسهل من أن تصف الفكر المعارض لك أنه وحشيًا حينما ترمي نصوصه أنها تشرعن للقتل ، ومن ذلك إيرادهم لقوله تعالى ((فَاقْتُلُواْ الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُواْ لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ )) هذا النص القرآني هو جزء من الآية الخامسة في سورة التوبة ، و الظاهر فيه أنه يشرِّع في قتال المشركين في أي زمان و مكان بل ويتوجب ذلك بحسب دلالة فعل الأمر ( اقتلوهم ) .
بيد أن قراءة النصوص القرآنية لاتكون بمعزل عن النصوص الأخرى وإلا وقعنا في المحذور لأن القرآن الكريم هو مدونة واحدة ، وهكذا هو شأن قراءة الكتب الأخرى فلا مناص من الحكم على أفكارها إلا في ضوء علاقة فكرة ما مع بقية الأفكار الأخرى في نفس الكتاب ، فالمشرع الإسلامي لم يجوز قتل المشركين إلا في ظروف محددة أشار إليها في نص قرآني آخر وهو قوله تعالى ((وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلاَمَ اللّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَعْلَمُونَ )) التوبة - الآية - 6 ، وبحسب علاقة هذا النص بالذي قبله تظهر الصورة الدلالية أكثر وضوحا بعيدًا عن التشويه والتحريف ، فالقتل للمشركين ليس مطلقًا وفي كل الظروف وإنما مقيد بدخول موضوع الاستجارة وهو طلب العفو والصفح عن الذنب و الخطأ وهولايكون إلا حين يصبح المطلوب تحت سيطرة الطالب وتصرفه ، وما أروعه من مبدأ إنساني ، لأن الكثير من المشركين من يحمل صورة سيئة عن الإسلام مغلوطة بسبب تصرفات بعض أبنائه فيعممها على أصل التشريع ، فالإسلام يرفض أن يكون القتل للمشركين على إطلاقه بل قيده بإتمام الحجة عليهم من خلال إعلامهم بإنسانية الإسلام و عدالته مع مخالفيه ( ذلك أنهم قوم لايعلمون ) وذلك باطلاعهم على نصوصه ( حتى يسمع كلام الله ) التي تعكس و توضح هذه المفاهيم الإنسانية المشتركة .
ومن اللطيف جدا أن المشرع الإسلامي أردف عبارة (حَتَّى يَسْمَعَ كَلاَمَ اللّهِ ) بعبارة (ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ) ، بمعنى أن يكون الإسماع في الإطار الذي يحقق الاطمئنان و الأمان للمشرك لتحصل الغاية الإنسانية من الإسماع للنصوص وهي الهداية لهم و الدخول في الإسلام عن اقتناع و فهم ، لا أن يكون الإسماع تحت وطأة السيف و التهديد فيحصل الإكراه بالإنتماء الذي سيكون وبالا على أهل الإسلام في المستقبل مصداقا لقوله تعالى (( لا إكراه في الدين )) ولو كانت القراءة لنص ما تأخذ بنظر الاعتبار ما قيل في نصوص أخرى لما حصل هذا السوء بالفهم المنطوي على انحراف فكري و عقائدي .
مقالات اخرى للكاتب