في الحصيلة نحن أمام تصورات وأفكار متعارضة في النتيجة وفي التأسيس، ويبقى الدين هم محل التجادل الأول بين الإنسان والإنسان بين الأخذ والأمتناع وما بينهما من مسائل، لا بد لنا أن نعترف أنه برغم كل التحولات الثورية في عالم الزمن والعلم العقلي بقى الدين يمارس نفوذا ما على الواقع، ليس كأفراد فقط بل كثقافات وأفكار ووجود يشبه الوجود الحتمي الذي لا ينفك من مرافقتنا في كل الأحوال، وصحيح أن الدين تطور شكلا ومضمونا وسلوكا ونتائج من خلال رحلة الإنسان مع وعيه وحاجاته، لكن هذا التطور المحدث ليس بالضرورة في جذريات مفهوم الدين بل بتطور العقل البشري أساسا، فقد تحول الدين من صورة الغيبيات والأساطير والخرافات ليكون أقرب تماما للعقل التجريبي، حينما أراد أن يكون مشاركا وجوديا بتطوير قدرة العقل على تجاوز فكرة ثنائية الأرض والسماء وفكرة الموت والخلود، إلى واقع المصلحة والمنفعة البشرية من خلال أختيار التركيز على معنى الخير والشر والصح والخطأ ودفعه جديا نحو عالم التفكر والتدبر والتعقل.
لم يعد الدين يعني بصراعات الألهة ومشاكلها وخياناتها وخيباتها كما في وثنية التعدد، كما لم يعد يهتم بسرد قصص بطولة جند السماء وحكايات الجن والمردة وقوة السحر والطلاسم في إحداث تغيرات كونية، الدين في بعض سردياته القصصية يتعاطى مع بعض هذه الموضوعات بتقنية الإيحاء الواعي، ليركز على حقيقة أن الإنسان مطالب أن يكون أكثر قوة وإدراك وحنكة مما في قوة وتصرف أبطال هذه السرديات والقصص، وأن يفهم أن الله أو الرب أو الديان ليس بديلا عن الإرادة البشرية عندما يتعرض البشري إلى إشكالية ما، على البشري أن يفهم أن الدين مجرد محاولة فوقية لترقية النظام العقلي وتحديث مكوناته من خلال دعم إيجابي تشجيعي فقط وليس بمعنى الحلول الوظيفي بدل العقل.
هذا الحقيقية تقودنا لنتيجة أن الدين يمكن أن يستجيب لعوامل ومحفزات وقوانين التحديث وبدون شروط، الأساس أن كل فكر أو معرفة لا يمكنها أن تتأقلم مع واقع متحرك ينتهي في نقط ما على خط سير التاريخ، المطلوب اليوم ليس من الدين وحده بل من العقل الديني المنتج للمعرفة أن يبحث عن نقاط التقاطع، بين ما هو مرسخ في ذاكرته وبين حقائق تظهر يوميا على سطح الواقع تطالب العقل أن يبحث عن حلول، من هذه النقاط منها على سبيل المثال موضوع الحرية الفردية والعامة وحق الإنسان في الإيمان، وحدود التدخل الديني ومدياته وشكلياته في مسار السيرورة التطورية للزمن، وهذا لا يعني حصر الدين في زوايا ضيقة للحد من وجوده بل زج الدين حقيقيا في تحديث أنظمة العقل وقدرته على الفهم، الدعوة لتحديث الدين ليس منها والمراد فيها أن نبتكر قواعد دينية جديدة، ولكن الإقرار بأن التعاط معه بما هو موجود في ظل تضخم وتنوع وتعدد وتجدد أليات التعقل والتفكير، لا يسمح للدين أن يبقى في مجاله الحيوي في المنظومة العقلية بالصيغة الراهنة كمنتج معرفي فعال.
في قراءة سريعة وأحتمالية بناء على المعطيات الواقعية للعالم الوجودي خلال المستقبل المنظور، نجد أن هذا العالم سيحدث فيه الكثير من التبدل والتغير وسيشهد المزيد من التحولات الثورية في معنى العلم أولا، وسينسحب ذلك إلى المعرفة الإنسانية عموما لينسف الكثير من المعارف ويحط بشكل عظيم أيضا من شكلها المثالي والتصوري المبني على عقلانيات مسبقة، سيكون العالم القادم عالم الكشف عن الحقائق وإعادة ترتيب الصورة الكونية بشكل قد يخالف حتى تصوراتنا العلمية المعتمدة الآن، سيكون العلم الفوق الواقعي والمنطقي في كشفه لتفاصيل غاية في المجهولية الآن وفي الماضي هو مرتكز التبدل والتطور والتجديد، العلم سيكون هو المتحكم والمسيطر على حركة العقل بحيث سيظهر لنا مفهوم ديكتاتورية العلم وسطوة التجربة المختبرية على صناعة الوعي بالوجود، لم يعد التفكير هو دلالة الوجود بل سيصبح البرهان هو الدالة الأهم والمحورية في وجود الإنسان لنتحول إلى شعار (أنا أبرهن إذا أنا أجد الوجود).
هنا يمكننا أن نتساءل عن حقيقة دور الدين في هذا العالم المتحرك السريع الذي لا يؤمن إلا بالبرهان والحس المادي، الحقيقة من الصعب الإجابة عن هذا التساؤل وعن إمكانية حتى تشكيل صورة ذهنية عن ذلك الواقع، ولكن العقل والمنطق يطلبان منا أن نستعد لمرحلة حتمية مرحلة "ألا حقيقة ثابتة" و"ألا ثبوت ما لمعنى الحقيقية"، الدين بفهمنا الحالي هو مذهب الحقائق المطلقة والتي لا تقبل منا حتى التفكر في كونها حقيقة أم لا، هذه الإشكالية لا بد للعقل الديني من أن يحسمها سريعا وجديا قبل الاستحقاق وإلا وجد نفسه خارج دائرة الأهتمام، بل وقد نشهد عالما أحاديا ذو وجه واحد هو عالم بلا دين ولا معرفة دينية ستنهزم مع أكتشاف ما قبل الوعي وما فوق الإدراك.
مقالات اخرى للكاتب