السلم الأهلي بصورة عامة يمكن تعريفه .. على انه نتاج لحالة رفض كل أشكال التقاتل ومنع نشر ثقافة التحريض على الأخر والترويج لمبدأ حتمية التصادم بين المتناقضات بسبب جذرية التباين بينها والحيلولة دون تحويل مفهوم الحق بالاختلاف إلى ايديولوجيا الاختلاف والتنظير لها ونشرها .. وقد شهد التاريخ الإنساني عبر العصور الماضية وفي العصر الحديث ، الكثير من الحروب والنزاعات الأهلية التي تقف ورائها دوافع أثنية وقومية وانتماءات قبلية ، كانت هذه النزاعات تخفي في طياتها أسبابها الحقيقية والتي غالبا ما تكون شخصية فئوية ضيقة او سياسية واقتصادية ، وقد رافقت هذه النزاعات انتهاكات فاضحة لحقوق الإنسان ، وقسوة مفرطة وصلت حد البشاعة وارتكاب مجازر فضيعة يندى لها جبين الإنسانية ..في تعبير بعض أطراف هذه النزاعات عن مدى تحمسهم لقضيتهم أو تعكس وحشيتهم وسادتيهم والانحطاط الأخلاقي لهم ، وفق المبدأ الداروني القائل ( البقاء للأقوى والأصلح ) ... وتتم هذه الأفعال تحت شعارات ومسميات واهية وزائفة الغرض منها التبرير للقسوة المفرطة التي ارتكبت بها هذه الأفعال ، مثل الحفاظ او نشر الأديان أو المعتقدات أو الدفاع عن الطائفة و القبيلة او الشعور والقناعة بالأحقية في التسلط على رقاب الآخرين ..والسبب الرئيسي لنشوء وتفشي مثل هذه النزاعات والحروب الأهلية هو غياب القانون وسطوته في المجتمع وضعف السلطتين القضائية والتنفيذية في الدول التي تحصل فيها هذه النزاعات ... وإذا ما رجعنا إلى الجذور التاريخية لهذه الصراعات فيمكن اعتبار ماجرى بين قابيل وهابيل ابني سيدنا ادم (ع) ، هي أول الحروب الأهلية ، حدثت في أو مجتمع أنساني مصغر وجد على هذه الأرض تبعا للرويات الدينية ، ومنها انطلقت مفاهيم الإقصاء ألقسري وإلغاء الآخر إذا ماحدث معه اختلاف في الرؤى أو تقاطع في المصالح ، وتحولت إلى أداة للحصول على المشروعية في الامتلاك والتسلط على الآخر بغض النضر عن الروابط الأسرية والاجتماعية وفوقها كلها رابطة الوطن والأرض التي تربطهما معا ... في عام 1994 قامت قبائل الهوتو التي تشكل ما يقارب أربعة وثمانون بالمائة من سكان رواندا بالقيام بمجزرة كبيرة استمرت لمائة يوم في حق شركائهم في الوطن والجنس ولون البشرة قبائل التوتسي التي تشكل خمسة عشر بالمائة من السكان وقد راح ضحيتها أكثر من ثمانمائة ألف شخص حسب تقديرات منظمة هيومن رايتس ، وكان السبب من وراء هذه المجازر وعمليات الإبادة الجماعية هو اغتيال الرئيس الرواندي جوفينال هابياريامانا الذي هو من قبائل الهوتو ، وقد شكلت هذه المجازر علامة فارقة في تاريخ الإنسانية الحديث إذا ما استثنينا الجرائم التي قام بها النازيين والفاشيين أثناء الحرب العالمية الثانية وخصوصا في أوربا الشرقية ، وإذا ما صدقنا حقيقة الهولوكوست .. لكن ماحدث في رواندا يمتلك خصوصية خطيرة جدا وهو أن ما جرى كان بين شركاء الوطن الواحد وكانت من أقسى الهروب الأهلية في التاريخ الحديث ، وفي حرب البوسنة والهرسك التي حدثت بين عامي 1992 – 1995 والتي ذهب ضحيتها أكثر من أربعة وستون ألف بوسني مسلم ، بسبب الصراع ألاثني الذي حصل فيها بعد انهيار المعسكر الاشتراكي وتقسيم يوغسلافية وانهيار السلم الاهلي فيها الذي كان قائما في ظل النظام الاشتراكي ، واغتصبت في هذه الحرب الأهلية حوالي خمسون ألف امرأة بوسنية على أيدي المليشيات من صرب البوسنة آنذاك وكل هذا تم بدوافع أثنية مقيتة تجاهل من قام بها انه جزء من أوربا المتحضرة التي تجاوزت عقدة الدين والطائفة منذ قرون ..لكن كل ذلك كنا نشاهده وناسف له عبر شاشات التلفاز ووسائل الإعلام في مجتمعنا العراقي الذي تربطه الكثير من روابط المحبة والإخوة والتصاهر والقيم الدينية والعشائرية ، التي هي خطوط حمراء للجميع وموانع تحول دون إحداث شرخ مجتمعي كبير فيه ، بالرغم من سعي النظام السابق إلى تأصيل نهج الطائفية والمناطقية عبر النظرة الانتقائية الأحادية التي كان ينظر فيها لأبناء هذا الشعب الواحد وتصنيفهم حسب انتمائهم الطائفي والمناطقي إلى مواطنين درجة أولى وثانية ...مما أنتج هذا النهج انتفاضة آذار المباركة والتي استغلها النظام للقيام بمجازر ذات بعد شوفيني البسها رداء الطائفية فترك لنا مقابره الجماعية التي حوت رفات أكثر من ثلاثمائة ألف شهيد من نساء وأطفال وشيوخ ...وحين سقط الصنم في 9 نيسان عام 2003 ظن الكثيرين في الداخل والخارج بان هذا الانهيار سينتج عنه عمليات ثار وتنكيل بين أبناء هذا الشعب وسينهار السلم الأهلي في العراق ، لكن الوعي الذي يمتلكه أبنائه وحضور المرجعية الدينية والنخب الوطنية حالت ومنعت من وقوع مثل هكذا أعمال ، وكانت هذه نقطة تحسب للجميع ، وخصوصا للأغلبية التي كانت مهمشة ، وبالرغم من كل التفجيرات والقتل العشوائي الذي تمارسه الجماعات الإرهابية منذ احد عشر عام ، والشرخ الاجتماعي الذي حدث بعد تفجير مرقد الإمامين العسكريين عليهما السلام ، إلا أن اللحمة الوطنية بين أفراد الشعب العراقي بقيت متشبثة بجذورها التاريخية العريقة والرصينة وحافظت على السلم الأهلي بين مكونات مجتمعه ... فكانت الصدمة والانتكاسة فيما جرى بعد سقوط الموصل في 9 حزيران وعمليات القتل والتغييب التي جرت بعد ذلك والتي كان محورها ماحدث في قاعدة سبايكر في محافظة صلاح الدين ، والتي راح ضحيتها سبعمائة شاب عراقي بين شهيد ومفقود ، لتكشف مدى الحقد والطائفية التي يحملها منفذوا هذه الجريمة النكراء ، والتي بالتأكيد خلقت جوا من الاحتقان الطائفي والمناطقي بين أبناء العراق ، على الرغم إن من نفذوا مثل هذا العمل الإجرامي لا يمثلون اغلب سكان هذه المحافظة ... لكن هذه الجريمة بقت في كل الأحوال ناقوس خطر وإنذار وإشارة إلى وجود خلل مجتمعي وأخلاقي تراكمي نتج بعد عام 2003 عند بعض الفئات في المجتمع العراقي التي شعرت بان ماحدث هو زوال لسلطانهم وسطوتهم وما فعلوه هو ردة فعل لهذا الاعتقاد القهري، لذلك نجد إن اغلب منفذي هذا العمل الجبان هم من أزلام النظام السابق أو من أبنائهم ، وأمام هذه الجريمة وغيرها مما يرتكب بحق أبناء العراق بكل طوائفهم وانتماءاتهم يتوجب على الجميع حكومة ومراجع دينية ونخب ومثقفين العمل على وضع خطوط عريضة وأسس لثقافة مجتمعية جديدة تعمل على إشاعة روح الإخوة والسلم الأهلي بين أبناء المجتمع ، وان تتبلور هذه الطروحات والتوجهات بطريقة تنتج آليات واقعية يمكن تطبيقها على ارض الواقع ومنها ... فرض هيبة الدولة والقانون وتجفيف منابع الإرهاب والضرب بيد من حديد على كل أشكاله والقضاء عليه ، تقوية السلطتين القضائية والتنفيذية وتطبيق القانون على الجميع دون استثناء ، تغيير الخطاب الديني المتشدد والتحريضي المثير للفتن والمشجع على العنف والقتل ، وإبداله بخطاب يدعو إلى التسامح وتقبل الآخر والبحث عن المشتركات بين الطوائف والمذاهب والاثنيات لخلق حالة من التقارب بينها يعمل على إشاعة ثقافة المحبة والسلم الأهلي في المجتمع ، الاهتمام بالتنمية المستدامة وتحسين المستوى ألمعاشي للفرد العراقي والتي يجب ان تواكب هاتين الخطوتين جميع المراحل والخطوات التي سبق ذكرها ، وتوفير فرص العمل للجميع بغض النظر عن الدين او القومية او المذهب وينظر للجميع من أبناء الوطن على أنهم سواسية كأسنان المشط كما أشار الحديث النبوي الشريف ، وهذا بدوره يخلق حالة من التطور والتمدن والرقي في المجتمع تجعل الكثرة من أبنائه يغادرون تخندقاتهم الفكرية الضيقة إلى آفاق أوسع وأكثر شمولية ويصبح الانتماء للوطن هو عنوانهم العريض ... وبالرغم من أن تحقيق هذه الغايات يتطلب جهدا استثنائيا من الجميع ووقتا قد لا يكون قصير إلا إن السعي لتحقيقها بحد ذاته يمثل خطوة كبيرة وغاية وطنية نبيلة ، لان الاقتتال والعنف الداخلي بين أبناء الشعب الواحد وعلى مر التاريخ الإنساني يكون الجميع فيه خاسرين ولا يوجد رابح عير أعدائهم .