الكوت قبل الحرب العالمية الأولى
كانت الكوت قبل الحرب العالمية الأولى عامرة بأسواقها كسوق حاج خميس السبع وسوق الباشا وسوق السيد حسين وسوق عباس العلي، ومحلاتها كمحلة الجديدة وعكد الأكراد والشرقية والسيد حسين ومحلة السيد نور، وبساتينها الكثيرة الكبيرة. ولكن بعد انتهاء حصار الانكليز وجدها الاتراك أثراً بعد عين فالأسواق أكوام وأكداس والبيوت مخربة والطرق مسدودة بالحواجز والاستحكامات وتنتشر فيها الخنادق والأنفاق ولم تسلم حتى المساجد من القصف.
احتلال الانكليز الكوت
في صباح يوم الاثنين 27 أيلول سنة 1915م زحف الانكليز بقيادة (طاوزند) نحو الكوت فبدأ القتال مع الجيش التركي بقيادة نور الدين بك. ولم تجدِ استحكامات الترك القوية اذ قام الانكليز بحركة التفاف حول الأتراك اضطرتهم إلى الانسحاب واستشهد الفريق محمد فاضل باشا الداغستاني وكان بجنبه الشيخ قصاب جد حسن الخيون شيخ السراي. فنسج الناس القصص حول مقتل الداغستاني فزعموا أن جواده ركع ساجداً على صاحبه وأخذ يصهل بأعلى صوته راثياً له. كما رثاه الشاعر جميل صدقي الزهاوي وعبد الوهاب النائب وغيرهما من الشعراء.
ولما دخل البريطانيون مدينة الكوت ذعر الأهالي وحزنوا على تقهقر جيوش المسلمين أمام الجيوش البريطانية. وكان السياسيون البريطانيون يعتقدون بأن الاستيلاء على بغداد هو المفتاح الوحيد للتأثير في العالم الإسلامي والسيطرة على الموقف في الشرق الأوسط. لذا واصل الانكليز تقدمهم الى بغداد.
حصار الكوت
انسحب الجيش التركي بصورة سريعة الى (سلمان باك) وهناك قام نور الدين بك بإعادة تنظيمه وسرعان ما أكمل جاهزيته فاستطاع أن يصطدم بالجيش الأنكليزي في 22 تشرين الثاني في معركة كبرى بالمدافع والحراب، فاضطربت صفوف الجيش الأنكليزي وحدثت فيهم مجزرة عظيمة انسحبوا اثرها الى الوراء، فطاردهم الترك واغرقوا مراكبهم واغتنموا منهم مركباً واحداً مما جعل (طاوزند) ينسحب الى الكوت بصورة سريعة، وطلب من حكومته السماح له بالبقاء فيها الى حين وصول النجدة العسكرية. فقام بتحصين الكوت وتعزيز خطوط دفاعها وتهيئتها.
أول شيء فعله طاوزند مع أهالي الكوت تقليل عدد السكان إلى أقصى حد ليوفر الطعام لجيشه أطول مدة مستطاعة. فطرد الذين ليسوا من أهل البلدة والأعراب الضيوف فيها مستبقياً أصحاب البيوت فقط وهم ستة آلاف نسمة وقتئذٍ. ثم احتجز عشريناً من وجهاء البلدة رهائن لديه ليستطيع السيطرة على الأهالي، ومنهم سيد عباس سيد ارزيج وبشار السعيدي ولاجي خلف. كما استخدم الأهالي في حفر الخنادق وإنشاء طرق عسكرية. وأنشأ خطوطا تلفونية تصل جميع خطوط الدفاع بمقر الفرقة وحصّن الكوت تحصيناً عسكرياً قوياً. وقد اتخذ دار السيد محمد علي الطباطبائي مقرا له (تقع قرب الساحة الحسينية الآن).
ابرق الجنرال (طاوزند) إلى الجنرال نكسن بان فرقة تركية طوقته من ضفتي النهر وان للعدو فرقتين أخريين على الضفة اليسرى غربي الكوت وان معداته وأرزاقه تكفي 60 يوماً فقط. وكان طاوزند قد بنى قلعة على ضفتي النهر في منطقة (الخاجية) وأسس خطاً دفاعياً واحكم القلعة لتتحمل قصف المدفعية، وانشأ خطين دفاعيين خلفها كما احتل (صوب الخان = العزة اليوم).
اكتشف طاوزند أن أبناء الكوت يسربون أخباراً إلى الأتراك؛ إذ يقوم فدائيون بعبور النهر ليلا على قِرَب يصنعونها من جلود الشياه ويضعون فيها الرسائل لإيصالها إلى الترك، فكان كل ما يحدث في صفوف الانكليز يسمعه عند الأتراك يلوكونه بألسنتهم. لذا قام ببث الجواسيس في أنحاء البلدة. ولكنه اتخذ قرارا غريباً همجياً هو إفراغ الكوت من الناس جميعاً، ليستريح باله وتكفيه مؤنه. الا ان (المشاور السياسي) في الكوت عارض هذه الفكرة قائلا: ان خروج الأهالي معناه إبادة النساء والأطفال والشيوخ وهو أمر يطيح بشرف بريطانيا، فاضطر طاوزند الى التراجع عن فكرته، الا انه حمّل المشاور السياسي - فيما بعد- مسؤولية فشله في الكوت لمنعه تنفيذ هذه الفكرة.
في الأسبوع الأول احكم الأتراك الحصار على الانكليز وبدؤوا يطلقون نيران مدافعهم الشديدة على الكوت فهدمت أسوار الحصن الذي بناه الجيش البريطاني وتساقط الجنود البريطانيون والهنود كأوراق الشجر على الأرض. وتلقى طاوزند من نور الدين باشا رسالة يطلب فيها تسليم الكوت حقناً للدماء ذاكرا ان احتلال الكوت على هذه الصورة يعرض سكانها الآمنين لويلات الحرب الهائلة وفي هذا عبث بقوانين الحرب بين الدول المتمدنة فرد عليه طاوزند " لا جواب عندي على طلبك المستحيل"!
في 10 كانون الأول هجم الجيش التركي على مدينة الكوت هجوماً عنيفاً طيلة النهار فتكبد الطرفان خسائر كبير في الأرواح وكانت جثث القتلى داخل الكوت من الانكليز والهنود بالمئات. وفي يوم 12 استأنف الترك هجومهم ليوقفوه يوم 14 بعدما فرغوا من انشاء شبكة كاملة مكونة من خطوط خنادق حصار وطرق مواصلات مقابل خطوط دفاع البريطانيين ليصبح الحصار منظما محكماً. واصبح قلق طاوزند من الاهالي يتزايد بسبب ايصالهم اخبارهم الى الاتراك. وكان يخشى ايضاً أن يكونوا قد دفنوا بنادق كثيرة لاستخدامها ضدهم اذا قام العدو بالهجوم. فأعلن أنه سيعدم الوجهاء المعتقلين بالرصاص اذا بدرت من السكان اقل بادرة خيانة. وكان قلقه في محله اذ غار على معسكره اثنا عشر من الاهالي، استطاع الإمساك بأحد عشر منهم أعدمهم رميا بالرصاص، وافلت واحد هو (الحاج جساس من شيوخ المكاصيص) كان ماهراً بفتح آلة من المدافع تجعلها عاطلة عن العمل. وقد دوخ الانكليز فلم يستطيعوا القبض عليه، وكانت وفاته في سنة 1960.
وفي صباح عيد الميلاد 1/1/1916 حمل الترك على الجيش البريطاني فقاتلوا قتال المستميتين وتمكنوا من دخول الطابية الشمالية الشرقية. وقد استعمل الطرفان السلاح الأبيض بل العض بالأسنان اذ يعض التركي خصمه الانجليزي من أنفه فيقطعه. وسقط في ذلك اليوم من الطرفين مئات القتلى وعشرات الضباط ثم انسحب الأتراك. أما ابناء الكوت فكانوا كالانكليز محاصرين تماماً. لقد اثخنهم الجوع ونفدت أطعمتهم حتى اكلوا الحمير لأن (طونزند) استولى على جميع مدخراتهم وكان لا يعطي احداً منهم طعاماً إلا بعد التحقيق. وبالمقابل كان الاتراك مسرورين بآلام اهل الكوت لتتفاقم مشاكل الانكليز وينفد طعامهم فيسهل استسلامهم. فكانوا بين نار الانكليز والترك. وكثيرا ما جاؤوا النهر ليستقوا الماء فيرميهم الأتراك بالرصاص ويردونهم قتلى على الرغم من مساعدتهم اياهم. وحفروا خنادق داخل دورهم مخافة الغارات الجوية الألمانية فسببت لهم الرطوبة الروماتزم فكانت محنتهم بالقتل والجوع والبرد لا توصف. وبقي الجيش البريطاني محصوراً في الكوت وباءت محاولات (ايلمر) وخلفه (غورنج) لفك الحصار بالفشل.
في أوائل كانون الثاني 1916 انتشرت الملاريا ففتكت بالسكان فتكاً ذريعاً من جراء سكناهم الأنفاق تحت الأرض. وفي نيسان هجم الانكليز على القوات التركية المرابطة في أراضي المكاصيص والفلاحية هجوماً عنيفاً غير أن القوات التركية ثبتت في خنادقها وكبدتهم خسائر فادحة. ثم قامت بهجوم مضاد على (مرتفع الجميلات) واقتتلوا قتالاً عنيفاً وآل الأمر أيضاً إلى السلاح الأبيض فانسحبت الجيوش البريطانية بقيادة (غورنج) في هزيمة منكرة، وقد حزن (طاوزند) لهذا النبأ ويئس من فك الحصار عنه. وصار الهنود بعدها يهربون إلى الجيش التركي، فاصدر طاوزند أمراً بإعدام من يفر منهم واعدم الكثيرين. لقد نفد الطعام فالجيش الانكليزي وأهالي الكوت سواء في المحنة. وطفقت الطائرات البريطانية تلقي أكياس الدقيق على مدينة الكوت فتصدها الطائرات الألمانية وتسقطها في دجلة.
في 23 نيسان أبرق طاوزند لحكومته: " لا مناص من التسليم.. إن الترك صدوا للمرة الثانية غورنج بقوة 30 ألف مقاتل و133 مدفعاً واعتقد أنهم كبدوه خسائر فادحة. ان أقصى حد استطيع الثبات فيه إلى 29 نيسان وغورنج لا يستطيع فك الحصار عني إلا بأعجوبة من السماء" وفي ليلة 25 نيسان اخترقت الجيوش التركية الباخرة (جلنار) العائدة الى شركة لنج وربانها الملازم الأحتياط المتطوع (كاولي) وهي تحمل 270 طناً من الدقيق الى الانكليز. وما ان وصلت شاطئ المكاصيص حتى أصلتها نيران المدافع التركية ودام ذلك نصف ساعة واسفرت النتيجة عن تسليمها الى الاتراك وقتل كاولي. ووصلت امدادات اخرى للجيوش البريطانية من خمسين الف جندي محارب فالتقت مع الأتراك في مقاطعة الشيخ عيسى الشغيدل وزمزير، احتل الانكليز اثرها بعض المقاطعات غير ان الزعيم علي احسان بك قام بهجوم مقابل مرير كانت خسائر الترك فيه 3 آلاف جندي مقابل 1600 من البريطانيين، وقد تسلم خليل باشا قيادة الجيش السادس بالنظر لوفاة قائده الأماني.
في 25/4/1916 طغى نهر دجلة وأخذ يهدد سكان الكوت فقام طاوزند بتسخير الأهالي بتقوية السدادات فاستغل الأتراك ذلك فأصلوهم بنار حامية ليقتلوا الكثير منهم. ومع ذلك واصلوا معالجة الفيضان خوفا على دورهم. كما قامت طائرات ألمانية بقصف المدينة فصدتها الطائرات البريطانية وفي هذه الغارة سقط طيار هو صديق حميم لطاوزند. وقد وردت برقية من ملك بريطانيا إلى الكوت معنونة إلى طاوزند يشكره فيها على شجاعته. وأصبحت الكوت حديث العالم كله فليس للصحافة غير أخبارها. وفي تلك الايام ولدت زوجة الحاكم السياسي ولداً فأسماه أبوه (كوت) وقد أصبح استاذاً في جامعة ويلز في سنة 1956.
وفي اليوم التالي 26/4 وافق طاوزند على التسليم فاجتمع بالقائد التركي خليل باشا الذي طلب من غريمه طاوزند عدم إتلاف معداته الحربية مقابل إطلاق سراحه فرفض ذلك. وفي يوم 29 نسف طاوزند جميع مدافعه وأتلف العتاد الحربي وجميع الأجهزة الأخرى وألقى بنادق جيشه في دجلة. ودخل خليل باشا مدينة الكوت وتقابل مع طاوزند فقدم الأخير للباشا سيفه ومسدسه فرفض الباشا أخذهما منه وقال له " ليبقيا معك لأنك أهل لهما " ثم سيق إلى باخرة حربية صغيرة أعدت له. بينما سيق الجيش البريطاني إلى المعسكرات التركية في الأناضول عبر الموصل، وكان عدد أفراده: 13300 جندي و551 ضابطاً و450 مجندة وخمسة جنرالات. وسفر معهم أسرى من أبناء الكوت بعد اتهامهم بالتجسس لصالح الانكليز. وكانوا يربطون الأسرى من الكوت مقرنين اثنين اثنين، وأخذوهم مشياً على الأقدام. وإذا توفي أو سقط احدهم من التعب يقتلون رفيقه لتستمر المسيرة، وهذا الأمر أثبته طاوزند في مذكراته (محاربتي في العراق). وفي الكوت قام الترك بحملة إعدامات واسعة بحق من أسموهم (الخونة) بمساعدة وكلاء أمن لهم، وممن اعدم شنقاً التاجر عباس العلي وابناه: سعد وعلي مع الإصرار على إعدامهما قبله. وقد استمر حصار الكوت خمسة أشهر إلا سبعة أيام وقيل انه أطول حصار في التاريخ العسكري البريطاني.
احتفالات النصر
دخل الفاتحون الأتراك بلدة الكوت في 29 نيسان وأقاموا احتفالات النصر فيها وفي بغداد والنجف الأشرف. كما أقاموا الاحتفالات في جميع بلاد تركيا وكذلك في برلين وسائر الممالك الحليفة وأجريت مظاهرات في النمسا ولهجت الجرائد بالانتصار الباهر. وقدّم السلطان العثماني التبريكات للجيش وقرأ الفاتحة على أرواح الشهداء. كما قدم إمبراطور النمسا والمجر وسام الصليب الحديدي إلى خليل باشا مع المدالية الحربية من الرتبة الأولى. وقد أرخ المرحوم الشيخ محمد علي اليعقوبي عام استرجاع الكوت إلى الأتراك بهذه الأبيات يذكر فيها فوز خليل باشا:
يا قائداً فيلقاً بسطوته
جج
أيّ حجىً ظل غير مبهوتِ
أسرت بالكوت كل ذي عنتٍ
جج
بعد حصارٍ وطول تفتيتِ
ضربتهم بعدما أحيط بهم
في بأس أجنادك المصاليتِ
في سنة لم تزل مؤرخة
(فاز الهمام خليل بالكوتِ)
1334 = 1916
مقالات اخرى للكاتب