المتلازمات الأصولية الثلاث التي أسهمت في تزييف الوعي بأصول الإسلام، وقلبت معايير التفكير عند المسلمين منذ وقت مبكر جدا (!!)
أولا.. متلازمة "الحلال بيِّن والحرام بيِّن"، وهي متلازمة خاطئة عقليا، يجب أن تُسْتَبدَلَ بالمتلازمة الصحيحة التالية: "الواجب بيِّن والحرام بيِّن" (!!)
ثانيا.. متلازمة "العبرة بعموم اللفظ "المعنى"، لا بخصوص المناسبة أو "السبب"، وهي متلازمة خاطئة عقليا، يجب أن تُسْتَبْدل بالمتلازمة الصحيحة التالية: "العبرة بخصوص المناسبة، لا بعموم اللفظ" (!!)
ثالثا.. متلازمة "لا اجتهاد مع النص"، وهي من أكثر المتلازمات تعارضا مع العقل والمنطق، يجب أن تُسْتَبْدل بالمتلازمة التالية: "لا نصَّ مع العقل" (!!)
تعتبر المتلازمات الثلاث السابقة والتي تُعتبر في منظومة قواعد أصول الدين والفقه الإسلاميين الموروثين بمثابة قواعد مسلَّمة يجب أن يتحرك في داخلها كلُّ من شاء أن يُعْتَرَفَ له بأنه يفكِّر على نحوٍ إسلامي مشروع، وإلا فإنه وتفكيرَه يقعان خارج كلِّ أطرِ المشروعية الدينية الإسلامية (!!)
وسوف نتعرض في مقالنا هذا للمتلازمة الأولى وتأثيرها الكارثي على الذهنية الإسلامية، ونلحق ذلك بمقالات لاحقة حول المتلازمتين الأُخْرَيَيْن (!!)
متلازمة "الحلال بيِّن والحرام بيِّن" (!!)
تعودنا على المقابلة بين مفهومي "الحرام" و"الحلال"، عندما نود عرض الأضداد والمتناقضات والمتقابلات والحديث عنها، في دائرة ما لا يُسمح به وما يُسمح به من "الأفعال" و"السلوكات"، وهما مفهومان يعبران عن "غير الجائز" وعن "الجائز".
تُعتبر هذه المقابلة من أكبر الأخطاء الشائعة التي رافقت السيرورة الذهنية لـ "المسلم" على مدى ألف وأربع مائة عام وما تزال، فأثَّرت بالسلب على أدائه الذهني الذي تميَّعت فيه الكثير من المفاهيم، فلم يعد يستطيع التمييز بينها.
فكانت واحدة من أكثر المتلازمات تزييفا للنبوة، لجهة تأثيرها السلبي على تشكيل محدِّدات التفكير لدى الإنسان المسلم.
ما معنى هذا الكلام؟! أي ما هو وجه الخطأ والتزييف ومن ثمَّ الخطورة المعرفية في المقابلة بين "الحرام" و"الحلال"؟!
في حقيقة الأمر، لا يمكننا وضع أيِّ مفهومين في وضع المقابلة، إلا إذا انطوى كلٌّ منهما على المعنى النقيض والضد للمفهوم الآخر. فنقول "الخير" و"الشر"، في دلالة على موقع النقيض الذي يحتله كلٌّ منهما بالنسبة للآخر. فالخير هو نقيض الشر. ونقول "الحق" و"الباطل"، لتجسيد الدلالة الضدِّيَّة السابقة نفسِها. فالحق هو نقيض الباطل. ونقول "الصواب" و"الخطأ"، للغرض الدلالي نفسه على التقابلية والضدِّيَّة. فالصواب هو نقيض الخطأ. وهكذا دواليك.
وبإسقاطنا لهذا الجوهر من التضاد والتقابل والتناقض، على مفهومي "الحرام" والحلال"، سنكتشف أنه غير متحقِّق بينهما على الإطلاق، ما يجعل المقابلة بينهما مقابلة غير صحيحة. فالحرام ليس نقيضَ الحلال، ولا هو ضده، ولا هو مقابله. فالحرام هو "ما لا يجوز فعله"، والحلال هو "ما يجوز فعله ويجوز تركه". وهو بهذا المعنى لا يمكنه أن يكون نقيضَ الحرام ولا ضده. فالنقيض لـ "ما لا يجوز فعله"، هو "ما لا يجوز تركه"، وليس ما يجوز فعله ويجوز تركه". أي أن نقيض الحرام وضده هو "الواجب" أو "الفرض". ومن هنا تجب المقابلة على قواعد التناقض والتضاد، بين "الحرام" و"الواجب/الفرض"، وليس بين "الحرام" و"الحلال".
أما "الحلال" فهو مفهوم مستقل وقائم بذاته ولا يقارن بالحرام. فمن حيث المبدأ لا يوجد مفهوم يقابل "الحلال" اسمه "الحرام". وهو ما يعني قطعا، أن المقابلة التي تعوَّدنا عليها بين "الحلال" و"الحرام" من خلال موروثنا الثقافي، رسَّخت في أذهاننا خطأً لا يستهان به. فما هو هذا الخطأ؟!
"الحلال" في حقيقة الأمر هو تجسيدٌ لمعنى "الحرية"، لأن الحلال هو ما أملك حريتي كاملة في فعله وفي تركه. بينما الحرام هو تجسيد لمعنى "القَيْدِيَّة"، لأن الحرام هو ما لا يحق لي فعله، تحت طائلة العقاب غالبا. والواجب يجسِّد أيضا معنى "القَيْدِيَّة" في الجانب المقابل لقيدية الحرام، لأن الواجب هو ما لا يحق لي تركه، تحت طائلة العقاب أيضا. "الحرام" و"الواجب" إذن يغطيان مساحة "القيدية"، أما "الحلال" فيغطي مساحة "الحرية". وهذا توصيف غاية في الأهمية كما سنرى.
ولذلك فقد كان الصواب أن تقع المقابلة بين "الحلال" من جهة، و"الحرام" و"الواجب" مجتمعين من جهة أخرى، على أن تكون مقابلة بين "الحرية" و"القيدية"، لا بين "الحلال" بصفته مجسِّدَ "الحرية"، و"الحرام" بوصفه مجسِدا لجزء من مكونات "القَيْدِيَّة"، وترك "الواجب" متحررا من المقابلة ذاتها بينه وبين "الحلال" لجهة التضاد الحاصلة فيهما بين معنيَيْ "الحرية" و"القيدية".
وعندما لم يحدث ذلك، واقتصر الذهن وعلى مدى زمني طويل، على تلقي المقابلة بين "الحلال" بدلالة "الحرية" فيه، و"الحرام" بدلالة "القَيْدِيَّة الجزئية" فيه، وهي مقابلةٌ عرجاء، فقد كان من الطبيعي أن ينشأ هذا الذهن وتترسَخ في بنيته التداعيات النفسية لهذه المقابلة غير الصحيحة، أو على الأقل غير المتوازنة بسبب عَرَجِها، ليغدوَ ذهنا أعرجا هو أيضا. وكانت النتيجة أن "ذهنية المسلم" تعودت بسبب هذا الخلل الكبير في توصيف التقابل، على التعامل مع ضد "الحرية" التي يتيحها "الحلال"، والتي هي "القيدية" التي يفرضها "الحرام"، باعتبارها هي "القيدية" الوحيدة الجديرة بالتجاوب معها، وإعطائها القداسة التي تتناسب مع كونها تقابل القداسة التي منحت للمفهوم الضد وهو "الحلال" و"الحرية" الناتجة عنه. وتمَّ التغاضي في هذا الذهن الأعرج عن قداسة وأهمية "القيدية" التي ينتجُها "الواجب/الفرض"، لأن هذه الأخيرة لم تترسَّخ في الموروث الثقافي الإسلامي باعتبارها ضد "الحلال".
فلم يسمع مسلم على مدى أربعة عشر قرنا، مقولة "الحلال بَيِّن والواجب بَيِّن"، لكنه ما فتئ يسمع مقولة "الحلال بَيِّن والحرام بَيِّن"، مع أنه لا فرق من حيث التضاد بين مفهومي الحرية" و"القيدية"، بين ذلك التضاد الذي تُنْتِجُه المقابلة التي تتيحها مقولة "الحلال بَيِّن والحرام بَيِّن"، وتلك التي تتيحها مقولة "الحلال بَيِّن والواجب بَيِّن"، لو أنها راجت وشاعت وانتشرت. فأصبح المسلم يتفاعل على الصعيد المسلكي مع متطلبات "التحريم"، أكثر من تفاعله مع متطلبات "الوجوب والفرض"، ويخاف من "ارتكاب الحرام" أكثر من خوفه من "ترك الواجب"، ويقدس حالة "اجتناب المُحَرَّم" أكثر بكثير من تقديسه لحالة "ترك المفروض".
وغدت معايير الصلاح والتبتل والاستقامة عنده، هي "ترك المحرمات" أكثر من "الالتزام بالواجبات"، إلا إذا تمت صياغة "الواجبات/الفرائض" بشكل مفهومي يتماهى مع قداسة التحريم، باعتبارها – أي الواجبات – ليس فقط "ما يجب فعلُها"، بل هي أيضا ومن باب أولى "ما يحرم تركها"، كما جرى مع الشعائر التعبُّدِيَّة مثل "الصلاة" و"الصيام"، التي أتاح هذا التلاعب في توصيف "وجوبها" باعتباره "تحريم تركها"، قدرا من التعامل التقديسي معها لا يقل – إن لم يزد – عن ذلك القدر المتعامل به مع "الحرام" و"المحرمات" و"التحريم" أصلا.
ولأن الترك "أداء سلبي" أسهل في الغالب من الفعل الذي هو "أداء إيجابي"، فقد ارتبطت أوصاف مهمة لدى المسلم مثل "التقوى" و"الإحسان" و"الصلاح" و"الخيرية".. إلخ، بهذه "الأفعال السلبية" التي هي "ترك المحرمات"، أكثر من ارتباطها بالأفعال الإيجابية التي هي "فعل الواجبات/المفروضات".
وعلى الصعيد الواقعي تجسيدا لتلك النتيجة الذهنية المضلِّلَة، أصبح "تجنب الزنا" و"عدم شرب الخمر" و"عدم أكل الميتة والدم ولحم الخنزير"، و"عدم التبرج"، و"عدم ترك الصلاة" و‘عدم ترك الصيام".. إلخ، أهم من "فعل النضال من أجل الحرية"، ومن "فعل السعي إلى إقامة العدل"، ومن "فعل الجهاد في سبيل القضاء على الباطل"، ومن "فعل قول الحق أمام السلطان الجائر".. إلخ.. لأن هذه "الواجبات/الفرائض" لم توضع بمقتضى فرضيتها ووجوبها، على محك المقابلة مع "الحلال" و"الحرية" على النحو الذي وضعت فيه تلك المحرمات والقيود.
وبالتالي، فنحن بإزاء هذا القدر من التضليل والانحراف والتزييف في "الوعي بالإسلام" أو في "الوعي بالنبوة"، من خلال هذا النوع من الاجتزاء المؤدي إلى العَرَجِ المعرفي، أمام مطلبٍ جوهري، يتمثل في ضرورة إعادة إنتاج هذا "الوعي" بشكل مختلفٍ، يُدْخِل "النبوة" في حاضنة "العقل"، بعد أن كانت قد حُرِمَت من أن تربو وتنمو في قلب هذه الحاضنة، منذ انزواءِ حاضنة "الوحي" عن أن تكون رحما تربو فيه "النبوة" وتنمو، عقب رحيل النبي محمد عليه السلام إلى الرفيق الأعلى.