لماذا يريد البعض من الإعلام أن يبقى أسيراً للروايات الرسمية، وأن يتحول الى مجرد "طنطنات" فارغة ومملة؟ لماذا الإصرار على العيش في ظل إعلام "صور من المعركة" حيث لا مكان للحقائق والأرقام والأحداث؟ المطلوب فقط تكريس الافتقار للمعلومة، وجهل مُقيم وخديعة مستمرة للناس.
بعد عقود اكتشف الغرب من رصيد الحروب ومآسيها، إن زمن الابتزاز والسقوط وشراء الذمم قد ولـَّى.. وأدركت الجمهوريات الحديثة، انه لم يعد مسموحاً أن يرفع شعار "غوبلز" الشهير "اكذب.. ثم اكذب حتى يصدقك الناس".
هل المطلوب من الإعلام أن يقدم أنصاف الحقائق، ويسمح للشائعة أن تكون بديلا عن الخبر اليقين.. يرد "بوب وورد" على متهميه بإفشاء أسرار تتعلق بالأمن القومي بعد كشفه لفضيحة ووترغيت قائلا: "إن ثمة طريقا واحدا للإعلام الصحيح وهو الشجاعة وليس الاستمرار في إغراق الناس بوحل الأكاذيب".
لماذا لا تريد الحكومة ومعها بعض السياسيين الإيمان بأن الإعلاميين بلغوا سن الرشد وغادروا حضانة "الصحاف" ولم يعودوا بحاجة الى كتيب يتضمن "وصايا القائد"، فالإعلام في العالم تطور وأصبح اليوم سلاحاً فعالاً في تنمية العقول، لا مكان فيه لتحويل الأكاذيب الى حقائق، ولم تعد محاولة إعادة "قناة الدولة" بالأبيض والأسود مجدية.. والناس لم تعد مجبرة على متابعة جولات القائد في مطابخ العراقيات، فلا مكان لنشرة الساعة التاسعة.. لان نشرات الأخبار الحقيقية صارت ترافق الناس في مكان عملهم وغرف نومهم، ومعها كل ما يدور في أبعد نقطة من العالم.
عاش العراقيون مع آخر فصول الإعلام المزيف حين خرج عليهم الصحاف ذات ليلة متوهماً انه سيطربهم بعدد القتلى من علوج العدو.. وان الطائرات الأمريكية تتهاوى وتبحث عن ملاذ آمن من "برنو منكاش" فيما الوقائع أطلت بعد أيام حين ربط جندي أمريكي الحبل في رقبة تمثال "القائد الضرورة".
فصول معركة الإعلام مع حكومة "صور من المعركة" لا تزال متواصلة حين يُطلب من الفضائيات أن تخفي نصف الحقائق حتى لا تتعرض الى مساءلة القانون، ولا يتعرض المصدر لغضب أصحاب القرار. اليوم لا يستطيع الصحفي مهما علت درجاته ان يدخل إحدى غرف اجتماعات الكتل السياسية. والمكان الوحيد الذي يجوز للصحفي ان يطل منه على أعمال البرلمان، هو قاعة وضعت فيها شاشات تلفاز يتفرج من خلالها رجال الإعلام على ما يجري داخل القاعة، وأقصى ما يحصل عليه الصحفي بيان أو تصريح مقتضب يقول "اجتمعت الكتلة الفلانية، وطرحت المسألة الفلانية، وحضرها المسؤول المختص".. وكان الله عالما بالأسرار. والسبيل الوحيد الى ان يتصل الصحفي بأحد المسؤولين هو ان يسترضي مكتبه الإعلامي ويحلف أغلظ الإيمان بأنه لن يُحرج السيد المسؤول بأسئلة مشاغبة، هذه الأمثلة تكفي لكي نسأل بعدها، أليست المسافة واسعة جدا بين الإعلام ومؤسسات الدولة؟! وإذا كان الإعلام حقاً جهاز مراقبة كما أراد له الدستور، فكيف يمنع من مراقبة مؤسسات يملكها الشعب الذي تعد الصحافة سلطته الرابعة؟ بأي حق يشكو بعض الساسة من إن الإعلام لا يقف على الحياد، ولم يقدم المعلومات الصحيحة للناس، كيف يستطيع الإعلام ان يقدم المعلومة وهو يجلس على قارعة الطريق؟! أسئلة كثيرة يمكن ان تثار، بعضها موجه لمؤسسات الدولة، والبعض الآخر إلى مجلس النواب، وأكثرها لمن يوجهون اللوم الى الإعلام ويتهمونه بالتحيز. لا ينكر احد ما لإعلام هذه الأيام من ذنوب، ولكن شماعته مثقلة بحيث لا تتحمل ان يُعلـِّق عليها البعض ذنوباً هو بريء منها.
يدرك العراقيون جيداً أن الحرب الدائرة اليوم هي حرب السياسيين أنفسهم، وانهم وحدهم يريدون أن يحوِّلوا البلاد "مسلخاً" تعرض فيه الجثث، ومختبراً لخطبهم وسرقاتهم وحروبهم الطائفية، مسلحين بالمال الذي سرقوه وبخطاب مقيت يحرض على حرق البلاد، فيما يواصلون إلقاء المسؤولية على الإعلام مصرِّين على ان يحولوه الى ثرثرة وفجاجة سياسية تذكرنا بأيام "ياكاع اترابج كافوري"!
يومياً نصحو على أصوات السياسيين وهم يصرخون بأعلى أصواتهم أنهم ضد الطائفية، وان الإعلام يحرض على الحرب الأهلية فيما الشواهد اليومية تقول إنهم جميعا لا يؤمنون بالدولة المدنية، تحركهم الميول الدينية المشوهة والطائفية المقيتة، فهم أول من مزَّق نسيج اللوحة العراقية المتعددة الألوان، ولهذا كنت وما أزال اعتقد أن السلوك الطائفي للبعض من سياسيينا أكثر خطورة من كل ما تعرضه القنوات التي تم حضرها في البلاد، بل أكثر خطورة من كل العمليات الإرهابية.
لماذا يريد ساستنا من الإعلام ان يتحوَّل الى ضد أو مع، فإما يهتف "بالروح بالدم" وإلا فهو إعلام هدام ومخرب مثلما أخبرنا مؤخراً السيد نوري المالكي.
أيها الساسة: إن لم تكونوا متواطئين على تخريب حياتنا، فالمؤكد أنكم فاشلون وعاجزون عن إدارة "دكان صغير"، فكيف بوطن بحجم العراق، أيها الساسة لا نريد منكم شيئاً سوى أن تدركوا إن عصر "صور من المعركة " ولـَّى والى غير رجعة.
مقالات اخرى للكاتب