عراق السلام
بعد شهرين في العراق و بالضبط قريبا من مأساة مدينة اسمها الموصل، هذه المدينة التي ولدت فيها لعبت كرة القدم في كل احيائها و كان لي أصدقاء في كل حي من احيائها.
وسبحت في دجلة الذي يخصب ارضها بالطيب و يجمع الشبان حول شواطئه، لم أفكر يوما ان اسأل فلان ، لا عن دينه ولا عن خلفيته، يكفيني انه شخص لطيف و يشاركني الحس الإنساني.
في مدينتي تقرع أجراس الكنائس لتقول لنا ان لنا اخوة في الانسانية يشاطروننا الحياة، أحب سماع أصواتها كما احب سماع صوت الحاج ثامر الدافئ الرخيم في أذان الصبح في جامع القادسية. و عندما أقول لأصدقائي من الملالي انني لا احب صوت المؤذن فلان لانه كثير النشار فلا يفكرون بقطع راسي لان نقدي تجاوز على الدين الحنيف كما يفعلون اليوم.
كانت معارضتنا للحرب العراقية الإيرانية تجمعنا حبا و تضحية ولم نوافق على قتال المسلم للمسلم، مواقفنا المعارضة أودت بحياة احد الأصدقاء و هروب آخرين خارج البلاد و بقيت جذورنا تشرب من دجلة و الفرات رغم وجودنا في المنافي البعيدة و نحب العراق بكل ما فيه.
في مدينتي تعلمت اللغة الكردية و احببت الأكراد ، ولم ينتقدني يوما احد " لماذا تحب كرديا اكثر من صديق عربي او لماذا تحب عربيا اكثر من كردي". كننا شعب واحد و تعلمت من ابي حب العراق عندما يتحدث عن أصدقائه يقول " هؤلاء أهلنا ". "
في مدينتي كانت معظم النساء يخرجن سافرات، نحترمهن و نحترم رغبتهن ولا يجرأ احد على معاكستهن او مضايقتهن لان شباب المدينة اخوة لهن. في مدينتي كانت النساء سيدات مجتمع و لهن صوت مسموع، اخرس صوتهم ظلما و جوراً.
التآخي
كل عيد من أعيادنا يذكرني بوحدة العراق بعد تناول الإفطار على عجل نخرج لتأدية فروض دأب والدي على تأديتها مستعجلا قبل الثامنة صباحا و قبل ان يقبض أصدقائه عليه في البيت و لا يتمكن من زيارات يعتبرها واجبة عليه و هو الأخ الأكبر، بعد ان نزور العم و الخال و العمة و الخالة نعود لنجدهم بانتظارنا في الصالة الكبيرة لتناول الغذاء عند الأخ الأكبر " ابي" . و تكون غرفة الضيوف مملوءة بالضيوف الذين كنت اسعد بالنظر اليهم لاختلاف أشكالهم و اشتراكهم في كثير من مشتركات الوطن ، الكريف موسى اليزيدي ذو الشاربين المميزين الذي كان حضوره فرضا و معه اما خروف او قدر لبن غنم، سيد علي من قرية السادة " شيعي" يتجمل بخنجر ذهبي يضعه على وسطه و العم احمد عليص الحديدي بالدشداشة التقليدية و اغوات الأكراد بأجمل ألوان الشلو شبك، و الجرجر المميزين بقامتهم الطويلة مرتدين الصاية و العم حسن سلطان من بازوايه تلك القرية التي يقطنها الشبك. لم أكن اعلم ماذا تعني خلفياتهم كل ما كان يعنيني انهم رغم اختلاف ملابسهم يربطهم رابط محبة كبيرة و احترام لبعضهم . و نتناول الغذاء معا كعائلة واحدة.
عراق اليوم
بعد هذين الشهرين الأخيرين في العراق قالوا لي هناك أناس قد تغيروا الحديدي قتل الأغا و الملا قتل ابو الابرشية، و الكردي يريد قتل العربي الذي التجأ اليه، و أهل قرية حتارة اليزيديين يكرهون أهل بادوش العرب.
و بقيت الموصل و أهلها ينعتون بأبشع النعوت إجحافا. نينوى مدينة الحب و التآخي التي جمعت كل الأطياف العراقية بين أحضانها ما ذنبها. اذا سلمت بأيد غير امينة. أصبحت شماعة اخطاء الدولة و سياسيها من كل الأطياف و سبب انهيار الجيش العراقي. ظلمت من كل الأطياف بغض النظر عن دوافعهم ، و بقي أهلها مغلوبين على أمرهم يستنجدون الا من ناصر؟
تم تسليط الأضواء على الأقليات و معاناتهم في كل وسائل الاعلام و ترك السواد الأعظم من أهل الموصل يعاني في تعتيم إعلامي و بقينا نتهم القتيل بالقتل.
في النرويج
انقضت الشهرين بأيام مثقلة بإحزان الموصليين و مآسيهم، و العراق برمته يوجه لهم النقد أينما كانوا، سواء كانوا في الموصل او خارجها" هاربين من الظلم او معارضين له" . في دهوك أصبحوا متهمين بالدعشنة و هم الهاربين منها و في أربيل كادوا ان يتعرضوا لحملة انتقامية لولا تدخل السلطات الكردية.
عدت الى النرويج احمل حزني الكبير و دخلت للعمل في يومي الاول في مكتب احد زبائني من المحامين المدافعين عن فلسطين فقابلتني السكرتيرة الاولى توريد بقامتها الطويلة و ابتسامتها العريضة التي تأبى ان تفارقها وأعربت عن سعادتها بعودتي سالما و سألتني عن أهلي و لا حت في محياها لمحة من حزن سرعان ما إزاحتها لتعود ابتسامتها من جديد. و بعد ان سألت عن كل تفصيلة من تفاصيل حياتهم قالت كيف هو حال النساء في مدينتك؟.
- فرض عليهم الخمار و منعوا من العمل في عدة أماكن.. ابتسمت
- يرتدون الخمار لكي لا ينظر الرجال الغرباء إليهن؟
- نعم، بالرغم من ان الدين لا يوجب الخمار. قلت لها موضحا
- الرجل الشرقي يهين نفسه بهذا السلوك
بدأت أفكر بسرعة لأعلم ما تعنيه توريد و أين ستنحو بي بهذا الحديث، خانني ذكائي فسألتها
.. - ماذا تقصدين؟ سألتها مبتسما
ابتسمت بخبث أعرفه جيدا و توقعت جوابا قادر على اثارة دهشتي و كان كذلك.
"ما اعنيه هو انه فقط ذكور الحيوانات يحاولون أخذ إناث بعضهم و لا يسيطرون على أنفسهم"
قبل ان أجيب خرج المحامي ليرحب بي و يخبرني ان الاجتماع قد بدأ
فلم أتمكن من الرد عليها و لا بكلمة واحدة بعد ان انتهيت من مهمتي تحدثنا في الشأن العراقي فقال لي المحامي:
" انت تعلم ان تشرشل قال في تعريف السياسة " امرأة عاهرة" قلت نعم فهز رأسه موافقاً
و في العراق عاهرة و طائفية و انا أتفهم موقف السياسيين منها فأما قوادين مستنفعين او مستمتعين بها، اما ما لا أستطيع فهمه لماذا يتصارع الشعب لتبني أفكار هذه العاهرة الطائفية".
وقبل ان أدافع عن العراق و العراقيين وصل الزبون الجديد و انتهى حديثنا.
ويبدو أنه لن ينصفنا أحد ما لم ننصف انفسنا.
مقالات اخرى للكاتب