في عام 2007 كنت قد توليت مهام مدير عام شركة تعبئة الغاز التي تعنى بتأمين الغاز السائل وطرحه في الاسواق للاستخدام المنزلي وكانت تلك الفترة التي توليت فيها تلك المهمة قد شهدت فتنة طائفية واعمالا ارهابية عنيفة تعرض لها بلدنا العزيز ولاسيما عاصمتنا الحبيبة بغداد حتى اصبحت المناطق مبوبة بعناوين طائفية لا مكان للأقلية فيها فقد اصبح التنقل بين المناطق امراً عسيراً حيث كان المقر الرئيسي لتلك الشركة في منطقة التاجي والتي تعد منطقة ساخنة امنياً وكانت ازمة الغاز في تلك الفترة قد شهدت ارتفاعاً غير مسبوق لسعر الاسطوانة فيها والذي بلغ (40) الف دينار وكان الوضع ما زال متدهوراً والقتل فيه على الهوية . وذات يوم راجعني في مكتبي في الشركة شخصان ادعيا في بادئ الامر انهما من منطقة بغداد الجديدة إخفاء لهويتهما وطلبا مقابلتي شخصياً وعند مقابلتهما تبين انهما من منطقة الاعظمية حيث قالا لي بالحرف الواحد "دخيل الله ودخيلك نطلب الامان" فلقد جئنا اليك نيابة عن اهالي الاعظمية وان اهلها ابلغونا تحياتهم اليك وان الغاز السائل غير متوفر اطلاقاً في منطقتهم واذا كان سعر الاسطوانة في مناطق بغداد 40 الف دينار فانه في الاعظمية قد بلغ اكثر من 50 الف مع عدم توفره وبعد ترحيبي بهما واستماع ما كان يتحدثان به اتصلت بعدد من الجهات الامنية لغرض تأمين الحماية لشاحنات نقل الغاز الى مدينة الاعظمية إلا إن اياً من الجهات الامنية لم يبد استعداده لذلك وقد اعتذر الجميع عن تلك المهمة عند ذلك قلت للرجلين اذهبا وابلغا بعد التحية اهالي الاعظمية بان الغاز سيصلهم عن قريب ان شاء الله .
وفي اليوم التالي اتصلت بوزارة النقل حيث قمنا باستئجار عدد من الشاحنات لغرض شحنها بأسطوانات الغاز وارسالها الى الاعظمية وقد تردد سائقو الشاحنات في بادئ الامر لأداء هذه المهمة وذلك لعدم وجود قوة حماية ترافقهم ولكني ابديت استعدادي لمرافقة القافلة بنفسي حيث كان معي بعض افراد شرطة النفط من العاملين في الشركة وبعد التوكل على الله وبعد تحميل تلك الشاحنات بأعداد كبيرة من اسطوانات الغاز توجهنا بها الى تلك المنطقة التي تعد منطقة ساخنة وعند دخولنا الى مدينة الاعظمية شاهدنا آثار الخراب والدمار وكتابة الشعارات ضد الحكومة على جدران مبانيها وعند وصولنا قرب مسجد ابي حنيفة لاحظنا هروب الناس من حوالينا وخلوا الشوارع منهم عندما دخلت الى المسجد طلبت من متولي المسجد تشغيل مكبر الصوت لأتحدث من خلاله وفعلا وجهت نداء الى اهالي الاعظمية وعرفتهم بنفسي ومنصبي وطلبت من مواطني المنطقة التوجه لاستلام اسطوانات الغاز التي جئنا بكميات كبيرة منها وبالسعر الرسمي خدمة لهم وبدافع وطني بعيداً عن اية اعتبارات اخرى وذكرتهم بان هذه الاعتبارات الطائفية والمناطقية قد دخلت علينا من خارج الحدود مع الاجنبي الذي جاء محتلاً والذي حاول شق الصف الوطني وقد كررت النداء عدة مرات وبعد قليل توجهت الى قرب المسجد حيث تقف الشاحنات فوجدت اعداد كبيرة من المواطنين وهم يهتفون بالصلاة على محمد وال محمد وكانوا غير مصدقين قائلين لنا بالنص "اليوم فقط شعرنا بوجود دولة منذ 2003 ولحد الان " قلت لهم :" قد لا يشكّل ايصال الغاز اليكم الا خدمة متواضعة وسط احتياجاتكم الكثيرة ومعاناتكم لكننا جئنا لنقول لكم اننا نتشرف بخدمتكم " ثم اردفت قائلاً ( ماذا ستفعلون لو الدولة لبت كل احتياجاتكم من فرص العمل وغيرها من الخدمات ) بعد ان تم توزيع كمية الغاز المحملة بالشاحنات كلها على المجتمعين من اهالي الاعظمية وحلول وقت الصلاة حيث اتجهنا للصلاة في المسجد بعد ذلك انهالت علينا اطباق الطعام من البيوت المحيطة بالمسجد وتناولنا الغداء سوية وعند مغادرتنا ودعنا المجتمعون بالهتافات والاهازيج وقد وعدتهم بانني سأقوم بتسيير قافلة غاز يومياً الى منطقتهم حتى انتهاء الازمة تماماً كما وعدتهم بتوفير بعض فرص العمل . وخلال عدة اشهر كما هو الحال في منطقة الاعظمية استطعنا وخلال تلك الفترة من انهاء ازمة الغاز السائل في العراق عموما حيث انخفض سعر الاسطوانة الواحدة الى السعر الرسمي المحدد من قبل الوزارة كما تم تحويل شركة تعبئة الغاز من شركة خاسرة الى شركة رابحة اذ تم توزيع نسبة من الارباح على منتسبيها في حين سددت النسبة المتبقية الى خزينة الدولة .
استنتاج
من هنا نستنتج و بالدليل القاطع بأن الشعب العراقي موحد في ولا يعرف الطائفية الا ان الكثير من ساسة الاحزاب هم من رسخوا الطائفية ولعبوا بعقول البسطاء من ابناء شعبنا المظلوم ليجعلوا من الطائفية سوقا لترويج بضائعهم الانتخابية المغشوشة ليكسبوا صندوق الانتخابات الاصفر بحقدهم وغيهم ..ولاسيما بأن وراء هؤلاء الساسة اجندات اجنبية ارادت للعراق الضعف والتقسيم
فلو ادركنا هذه اللعبة منذ البداية وتجنبنا الفتن الطائفية لحقن دماء ابناءنا من رأس البيشة جنوبا الى ابراهيم الخليل شمالا وحفظنا اقتصادنا المهدور ولأصبح بلدنا في طليعة دول الجوار على اقل تقدير لذلك فقد اوردت هذه القصة مع اهالي الاعظمية الذين عبروا عن حبهم لوطنهم ورفضهم للطائفية من خلال شعورهم الذي ابدوه في هتافاتهم التي ودعونا بها وكان ذلك بمجرد ما قدمناه لهم من خدمة بسيطة وهي توفير مادة يمكن توفيرها في كل وقت وهي الغاز لنثبت ان التعايش مع المواطنين وتامين احتياجاتهم بصرف النظر عن انتماءاتهم الطائفية او القومية يعزز الجانب الوطني لدى المواطن وينعكس ايجاباً على التعايش السلمي بين المواطنين عموما ً.
الصدى الاعلامي لهذه المبادرة آنذاك:
وبناء على هذه المبادرة نشرت صحيفة البينة الجديدة خبرا جاء فيه :
في مبادرة تستحق الثناء لشركة تعبئة الغاز وصلت عدة شاحنات ترافقها سيارات من شرطة النفط محملة بأسطوانات الغاز السائل الى مدينة الاعظمية لأول مرة لإيصال الغاز للمواطنين هناك وتم توزيعها كحصة اضافية بدون بطاقة تموينية . وبالرغم من ان الاعظمية تعتبر واحدة من المناطق التي تعاني من انعدام الخدمات نتيجة عدم استتباب الوضع الامني الا ان السيد عامر عبد الجبار اسماعيل مدير عام شركة تعبئة الغاز كان على رأس القافلة التي وصلت الاعظمية . وقد حضر لاستقباله اعضاء المجالس البلدية ومجالس الصحوة والوقف السني وادارة جامع الامام ابي حنيفة وجمهور من المواطنين الذين اثنوا على هذه المبادرة الفريدة وحرص مدير عام الشركة على الحضور بنفسه لتقديم خدمات شركته للمواطنين . السيد عامر عبد الجبار صرح انه جاء بنفسه لهذه المدينة العزيزة لتجاوز هاجس الوضع الامني ولكي يشعر المواطن ان الدولة تهتم بتقديم خدماتها الى جميع مواطنيها دون تمييز ، ووعد المواطنين باستمرار ايصال الغاز لهم وقال ان شركته على استعداد لتجهيزهم بالأسطوانات الجديدة ومنظمات الضغط العالي والواطئ ومن مناشئ عالمية عالية الجودة . واضاف : قد لا يشكّل ايصال الغاز اليكم الا خدمة متواضعة وسط احتياجاتكم الكثيرة ومعاناتكم لكننا جئنا لنقول لكم اننا نتشرف بخدمتكم واننا منكم واليكم فنحن شعب واحد ويد بيد لن يفرقنا الارهاب القادم من وراء الحدود . كما طرح مبادرة على جمعية الوفاء لتشغيل العاطلين وتوفير فرص عمل يمكن لأبناء المدينة التقدم اليها واجتياز اختبارات القبول وتشمل عشرة محاسبين من خريجي كليات الادارة والاقتصاد واثنين قانونيين وثلاثة سواق الشاحنات للعمل في مقر الشركة في التاجي .
المواطنون من جهتهم كانت ردود افعالهم ايجابية للغاية وقد اعربوا عن ارتياحهم وتفاؤلهم بمبادرة شركة الغاز ، فقال احدهم اننا نشعر لأول مرة بوجود دولة وحكومة من خلال هذه المبادرة ودعا الى تكرارها ، فيما طالب آخرون بتعميم الفكرة على القطاعات الخدمية الاخرى مؤكدين ان هذه التجربة لو عممت فأنها ستسهم بلا شك في القضاء على كثير من المشاكل والمعاناة في المدينة وستزيد من ثقة المواطن بالحكومة . وطالب بعض المواطنين بان يتم توزيع النفط الابيض على المواطنين بنفس الآلية حيث ان الحصص المقررة وفق البطاقة التموينية لاتصل الى المواطنين في اغلب الاحيان . وقال مواطن آخر : لو قام كل مدير عام بتقديم الخدمات بنفسه ونزل الى الميدان لاسهم في القضاء على الارهاب وتجاوز المحنة التي يمر بها البلد بصورة عامة والمدينة بصورة خاصة .
نحن بدورنا اذ نثمن ونشيد بمبادرة السيد مدير عام شركة تعبئة الغاز ندعوا القطاعات الخدمية في الوزارات كافة الى الحضور الميداني وتقديم خدماتهم لأبناء المدينة ليشعروا بمتعة احتضان مواطنيهم لهم وليسهموا في تخفيف معاناتهم .
مقالات اخرى للكاتب