عنيت الإصلاحية الإسلامية في القرن التاسع عشر؛ “عناية مركزة” بمسألة الإصلاح الديني تحت عنوان الحاجة لإجراء إصلاح الأمة على شتى احوالها ومرافقها، فكان وعياً مبكراً ومتزامناً كنتاج لحالة التخلف الديني وغياب الوعي القومي وضعف الإدراك بهموم الأمة قضاياها المعاصرة؛ أملاً في تصحيح مسار الأمة الذي بدأ يتخبط حتى قبل إنهاء أخر خلافة إسلامية بتوقيتها الدقيق.
أي إن الإصلاحية الدينية (الإسلامية) التي انطلقت منذ توّجهات الشيخ جمال الديني الأفغاني إلى تلميذه الإمام محمد عبدة إلى الصعود السياسي للخمينية الإسلامية في إيران, إلى احتلال بغداد والإتيان بسلطة ثيوقراطية تحكم باسم الطائفة والدين, إلى قيام ثورات الربيع العربي الذي أضحى ربيعاً/ أو خريفاً إسلامياً _ بشكل أقرب _ للوصف.
وأكثر النقد والجرأة هو الذي بدأ ببدايات طروحات الأمام محمد عبده الذي قدم نقداً حاداً لرفض الثيوقراطية كحل إسلامي, معترضاً عليها بشكل قطعي, فرسم خطاً فاصلاً بين السلطة الزمنية والسلطة الدينية على قاعدة عدم جواز الدمج أو الجمع بينهما في الحالة العربية _ الإسلامية؛ واتساقاً مع الطروحات الإسلامية الكلاسيكية التي جاءت بها ثوابت وقيم وتعاليم الدين الحنيف نتيجة لغياب النص الديني بهذا الشأن.
وقد تبلورت فكرة الإصلاح الديني في الوعي النهضوي العربي الوحدوي بمعناه “القومي” بعد إن تأكدت استحالة النهضة من باب السياسة والإصلاح السياسي فقط؛ على نحو ما خاض في ذلك الطهطاوي والتونسي وأبي الضياف والأفغاني وأخرون؛ إلا إنها كانت دعوات أو توّجهات _ رغم إنها وضعت الأمة العربية على خطى واضحة وسلالم صحيحة _ إلا أنها بقيت متواضعة ربما لتجاهلنا تلك القيم وعدم الأخذ بمهمازها أو لأنها كانت دعوات شخصية فردانية وبقيت كذلك.لقد كان لزعماء الإصلاح الديني والنهضة الشاملة دور بارز في السعي إلى تجديد الفكر الديني والسياسي والاجتماعي والتربوي لكن رغم ذا لا يعدو اصلاحهم ونهضتهم أن تكون “نظرية دون تطبيق”، أو “فكر من غير ممارسة”، حيث سجل التاريخ إعاقة النهضة وخمول الإصلاح الديني الذي تبنته الحركات الإسلامية في الدعوة لإصلاح حال العرب والمسلمين من خلال إصلاح مؤسساتهم الدينية وجوهر ذلك الفشل مُكمن في سبب واحد هو انشغال الحركات الإسلامية بالسلطة والدولة والسياسة والنفوذ ومجافاتهم للتربية والأخلاق والتوجيه الاجتماعي والبناء الأسري _ ما خلا محمد عبده الذي تبنى هذا التوّجه _؛ وبالتالي ظلت النهضة والإصلاح “الفريضة الغائبة” وبقيت قيد البحث عنها، وما زلنا نتوّق للإصلاح ونحفد للنهضة وهو ليس إلا تعبيراً عن فشل “الإصلاحية الإسلامية” من تحقيق اهدافها المنشودة، لأنها بالقلم العريض كانت اهداف قد تحققت على البعد النظري والفكري إلا إنها ما زالت مُغيبة تماماً من البُعد التطبيقي والممارس كواقع عملي ومعطى تاريخي سيروري، فكانت النتيجة بروز الإسلام السياسي (الحاكمي) الأصولي كقوة فاعلة ونشيطة تسعى من أجل الأخذ بزّمام مبادرة الإصلاح الديني واستنهاض الهمم البشرية من منظور ديني، يعول على الإسلام لكنه ينتهي بالتعويل على الإسلاميين وفكرهم الحركي.
ومن ثم تحوّل الإصلاح في ظل المنظور الأصولي والتوّجهات الثيوقراطية إلى حروبٍ أهلية مُدمرة قاتلة وقائمة على فريضة الجهاد بالمعنى الراديكالي الأصولي، لا بمعناه الإسلامي المُبكر الأولي، وهو ما يعني إصلاح الأمة من خلال نافذة جهاد العرب ضد العرب!!
مقالات اخرى للكاتب