يبقى الحسين ع وقضية الحسين وأثرها في نفوس الناس بمختلف مشاربهم المتباينة بين الـ (مع والضد) الشاغل الأبرز مع تجدد التاريخ وإطلالة كل عام هجري جديد، لنجد هذا الإنغماس العجيب بها بوعي أو من خلال العقل الجمعي الذي تثيره مشاعر وأحاسيس جياشة، وأحيانا تشكل نواة لحراك فكري عاطفي تطغي عليه روح الأنفعالات وتوشحه في الغالب المشاعر الإنسانية، في ملحة دموع وألام تشتعل لتنطفي دون أن تنقل الناس كعقل من حالة السلب الطقوسي إلى حالة التأمل والتصميم والقرار، وقليلا ما نلامس كمؤمنين بهذه القضية ومنفعلين بها حدود القضية الأصلية التي نهض من أجلها الحسين، في مقاومة فريدة تأريخية حية في زمن عج بالتواطؤ والأنتهازية السياسية والأبتذال العقائدي، وكأن الحديث لم ينتهي عند شعار الثورة أنذاك (خرجت لإصلاح أمة جدي رسول الله، ولم أخرج أشرا أو بطرا).
القضية برمتها ندركها من خلال الشعار المرفوع علنا ومن خلال المسيرة والسيرة التي تثبت أن الإصلاح العقائدي كان ضروريا، للحد الذي يلامس وجود الفضيلة والعدل والإحسان التي هي أسس وأركان الأمر الرباني، وليس هناك من عاقل ومنصف قرأ القضية من منظار نظرية الصراع يخرج بغير نتيجة واحدة، هي أن الثورة الحسينية لم تكن وليدة صراع وتنازع شخصي أو مصلحي بين طرفي نقيض، بل هي وليدة حتم وجوبي قاهر وملجئ لا مفر من مواجهته بين خيارين، خيار الخضوع والعودة لما كان قبل الإسلام من قيم وموروث بدوي عرباني فاقد لنظرية أخلاق إنسانية المضمون، أو التحدي والمواجهة وكشف الإنحراف في هزة أجتماعية تطيح بالمشروع المحافظ العرباني بحلته الجديدة.
الغريب أن البعض يدرك هذه الحقيقة وجوهرها ويفهم كل ذلك بصورة أكيدة ولكنه يتجاوزها نحو الأهم لدية، الأهم الذي يجني من وراءه نقاط تحصيلية في إدارة أزمة نشأت بعد أن تفاعلت الثورة مع الواقع وأنقسم المسلمون طرفي نقيض، طرف يؤمن بجدلية الثورة والحرية وبالأستمرار بالمقاومة تحقيقا لهدف إنساني وبروح الدين الذي يؤمن بها، والأخر الذي ينظر بتوجس من تكرار الثورات والأنتفاضات ليهز الأستقرار السياسي الأجتماعي النوعي، وهو يتحدث أصلا عن مشاعر وتصورات واستراتيجيات تعبر عن لا وعي جمعي قومي عرباني وليس واجب وهدف غائي ديني، هذا الوعي أساسه ما تحقق من المنجز الذي تفتخر به الأنا العربانية المتضخمة في تمددها نحو الأخر، والتي عبرت عنها صورة الفتوحات السلطانية التي قادت الأعراب في أولى خطواتهم الاستعمارية ليبنوا دولة مترامية الأطراف، في تجربة لا يمكن عدها تأريخية بمعنى أنها جاءت وفق سنة تأريخية أو حتمية منطقية.
المشكلة التي تبلورت من خلال الزمن التاريخي التي عاشته القضية الحسينية في تعاقب الفهم الإنساني لها، وحسب المراحل التاريخية والتوظيفات المهمة نتيجة الصراع والشرخ الذي أحدثته في واقع المجتمع الإسلامي، هو تحويل القضية من دائرة الواجب الديني الضروري أستجابة لحق أساسي منسجم مع الرسالة ومتوافق مع حق الإنسان في أن يحيا تحت قانون وواقع عادل، إلى توجه نوعي وقيمي أخر فرضته طبيعة الصراع الإنساني، الصراع الذي يتمحور الآن حول رمز القائد ورمز المحرك والرمز الذي يشير إلى هوية فرعية أكثر ما يشير إلى قضية كلية، لقد تحولت الثورة وأهدافها العظمى كقضية تحرر إنساني وتقزمت بشخص صوره الأدب التاريخي لمجرد ضحية وقسوة وهمجية الأخر، في موقف تعاطفي يثير البكاء والشجن أكثر ما يثير العقل ويحرك الضمائر لأنتزاع الحقوق تحت شعار (هيهات منا الذلة).
مما لا ينكر أيضا وعبر دراسة التاريخ الديني الأجتماعي السياسي للمسلمين عموما وللفئة التي أنتصرت للقضية الحسينية بانتمائها العاطفي والعقلي، شكلت هذه المجموعة حاضنة طبيعية لفكرة النهضة وفكرة الثورة لأنها تعاملت مع القضية الحسينية كإطار حامي لوجودها وليس كفعل للأنتقال من دور المجني عليه إلى دور الباني والمجدد للفكرة، بمعنى أن الحسينيون نفسهم هم من ساهم بتجميد النهضة وحركتها في حدود صورة المشهد الذي نراه اليوم، وتحولت الثورة وفكرتها إلى أيديلوجية أنتماء فقط لا إلى منهج عملي وثوري مقاوم ليس فقط لهذه الثلة من الناس بل لتحويل واقع المسلمين إلى قاعدة للثورة المتجددة.
قد يستنكر البعض هذه الحقيقة ويعتبرها أتهام للشيعة على أنهم عاشوا المأساة فقط من صور الثورة ولم يعيشوا الفعل الثوري وأساسيات النهضة، نعم أنا أتهم المجتمع الشيعي بكل جرأة لأنهم خضعوا لمنطق الإستلاب من طرفين متناقضين وإن جمعهم هدف واحد، الطرف الأول والأهم هو المؤرخ والقائد الديني الذي مارس عملية الأستقطاب لمواجهة الآخر المختلف عقائديا وسياسيا لمحاولة الحفاظ على مكسب التعاطف، والأخر المختلف الذي مارس نفس سياسة الأستلاب بعنوان الخوف من تجدد فكر النهضة فزاد قسوة الصد والرفض ونكران حق الشيعة في التمتع بالحرية الفكرية فعزلهم في دائرة الاتهام المزمن والمتواصل على أنهم أعداء الإسلام والدين.
هذه السياسة المزدوجة التي أحتوت عند الإنسان المسلم الشيعي كل طموحاته وصبها في شعور متزايد بكراهية الأخر له وأرجع مسبباتها لقضية الحسين أصلا ولنتائجها، فأصبح التفاخر والتباكي والأنتماء بمظهرية حسية أمام الخصم سلوكا جمعيا يعبر به عن رفض الظلم ورفض لكل شعارات الخصم، بالمقابل المؤسسة الدينية الرسمية المحافظة والتي تخشى من تأثير فكرة الظلم على الناس حاولت بكل جهد أن تخرج هؤلاء الشاعرين والمستشعرين الظلم من دائرة الدين واتهامهم بكونهم الطابور الخامس الذي يهدد وجود الإسلام والدولة الإسلامية، هكذا نجح الطرفان في المؤسستين الدينيتين المتناحرتين في توظيف الجمهور الشيعي ومن خلالهم توظيف قضية الحسين في صراع قيم وصراع مصالح وصراع سياسات، تحاول التنافس على الزعامة فقط وأختصر الحال من ثورة مبادئ سامية إلى مذهبية سياسية تعبر عن أفكار أنانية بعيدا كل البعد عن الحسين وثورته.
لقد عانت الثورة الحسينية من أستلابها واقعا بدل من إستيعابها عقلا وتحويلها إلى ثورة إنسانية مستمرة ضد كل أنواع الظلم والتعسف والأنحراف والفساد، وجرد مفاهيم الإصلاح والمصلحة الشمولية للدين والإنسان من كليتها العامة إلى التوقع داخل مصلحة مذهبية ضيقة بعنوان الحفاظ على شريحة إنسانية تتبع على الظن فكرة الحسين، فقد تحولت هذه الشريحة من قيادة الإصلاح إلى مجموعة من المظلومين الذين ينتظرون فرصة تاريخية غيبية لتقوم هذه الفرصة بالإصلاح بدلا عنهم وإن كان هذا الأنتظار يعزز فيهم الأمل ولكنه في حقيقة النتائج جعل الثورة الحسينية مجرد شعار خال من روح خال من فعل الحسين وأصحابه عندما قام بالواجب الإنساني والديني بمسمى الحق والأستجابة له وليس بمسمى طائفة أو فرعية ينتمي لها.
على الشيعة اليوم أن يتخلصوا من رداء الفردية وأن يعودوا إلى منطق الحسين منطق الواجب الإسلامي في قيادة الوعي نحو الإصلاح العام والشامل، وأن يخرجوا من دائرة الأستلاب والمظلومية ليكونا في دائرة القدوة عبر التخلي عن الشعور بالمظلومية لأن المظلوم الأساس ليس هم ولا الحسين بل الإسلام الذي يذبح يوميا باسم المذاهب والطوائف، على الشيعة اليوم التخلي عن شعار يا لثارات الحسين وأن يقودوا العالم الإسلامي لصحوة تعيد مفهوم الإصلاح لجادته الطبيعية من خلال تبني الإسلام المسامح الإسلام الذي يدعو لمقابلة الإساءة بالأحسان، على الشيعة اليوم إذا أرادوا الأنتصار للحسين أن يمتثلوا لنداء الحرية الذي أطلقه الأمام الشهيد يوم العاشر من محرم (إن لم يكن لكم دين عيشوا أحرارا بدنياكم).
لمن يريد ينصر الحسين من كل المسلمين الذين يؤمنون أن الحسين كان على حق أن ينصرفوا عن عناوينهم الفرعية ويلتحقوا بقافلة الثورة التي أنطلقت لأجل الإنسان ولأجل التحرر من الخضوع للفساد والمفسدين والعودة بهم لزمان ما قبل الرسالة ما قبل أتمام مكارم الأخلاق، علينا نحن المؤمنون بأن الثورة الحسينية ثورة قيم وأخلاق أن نترك شعارات الشارع وشعارات العقل الجمعي التي صنعته سنين طويلة من خرافات وسلوكيات وتصرفات سلبية تعمق في الإنسان حالة الأنهزام ومعاقبة الذات تحت عناوين أحياء الأمر وهي لا تنتمي بأي صيغة من صيغ الأحياء وليعلم الناس أن ثورة الحسين محفوظة لأنها ثورة الإنسان ضد الظلم وأنتصار المظلوم وليس الأمر يعود في حفظها لطقوس وثنية جاهلية لا تزيد العالم إلا نفورا وأستنكارا.
مقالات اخرى للكاتب