بلاد مابين النهرين ، أو كما أطلق عليها اليونان ( ميسو بوتاميا ) ... هذه البلاد المتجذرة في عراقتها وعراقيتها ، مهد الحضارات ، منها انطلقت أولى الديانات السماوية ، وبشر على أرضها نبي الله إبراهيم (ع) بديانة التوحيد ... ومن وحي فكرها الغني الثر عرفت البشرية الحرف والكتابة ، وعليها سنت اقدم القوانين ، فسيفساء جميلة أغنت العالم بنتاجها الحضاري والفكري على مر العصور ، محط رحال الأنبياء والأوصياء وملاذ شواهدهم الطاهرة ، فقد أثبتت الحفائر الأثرية والأدلة الانثروبولوجية ، إن العراق كان يعيش حياة مستقرة في عصور ما قبل التاريخ من الإلف الرابع قبل الميلاد ، ونظرا لما تتسم به أرضه من مميزات جغرافية فريدة ، فقد كان مواطن الاستقرار البشري الأول في العالم ، عرفت البشرية بالزراعة والصناعة والنار وكيفية توليدها وصناعة الفخار وأدواته ، ولم تلبث أن انتقلت مظاهر المدن إلى قسمه الجنوبي حوالي 4000 قبل الميلاد كما في مدينة أور والتي تعتبر من أقدم المستوطنات البشرية التي كشفت عنها التنقيبات في جنوب العراق ، حباها الله بنهرين عظيمين كانا سببا رئيسيا في نشوء هذه الحضارات عليها وقد تم ذكرهما في العهد القديم سفر (التكوين ) ...(نهر يخرج من عدن فيسقي الجنة ومن ثم يتشعب فيصير أربعة رؤوس اسم احدها فيشون واسم الثاني جيجون وهو المحيط بأرض الحبشة كلها ، والنهر الثالث حدقال وهو الجاري في شرق أشور والنهر الرابع هو الفرات ) ... مر بهذا البلد أفواج الغزاة عبر تاريخه الموغل بالقدم ، وفرضت عليه الكثير من الثقافات والإسقاطات الفكرية والعقائدية التي حملها المحتلين معهم ... لكنه بقي عراقيا صرفا وتر خالد لم يمسسه سوء ولا درن ... أراد له الكثيرين أن يكون تابعا او تمنوا على الله ذلك ... وهللوا وطبلوا لفرضيات ونظريات ليس لها وجود الا في أحلامهم المريضة ، وها نحن نسمع بين الحين والآخر من بعض الأصوات النشاز التي تحركهم دوافعهم الطائفية والقومية الشوفينية بان العراق بكل ارثه التاريخي والحضاري هو تابع لهذه الدولة أو تلك ... أو ينسب جزء كبير من أبنائه إلى دولة بحد ذاتها كنوع من الانتقاص والنيل منه ومحاولة لتجريده من عراقيته ... لا يوجد بلد على هذه الأرض إلا وتعرض لغزو واحتلال ، ولا توجد حضارة إلا وقامت على أطلال حضارة أخرى ، إنها حتمية التاريخ ... فلماذا العراق بالذات سلطت عليه الأضواء عبر جدلية عقيمة الهدف منها التضليل وخلط الأوراق ... في تاريخنا المعاصر كانت الكثير من دول المنطقة وبالخصوص العربية منها تعاني أزمة الانتماء والهوية وعاشت صراعا فكريا وسياسيا واجتماعيا مريرا لبلورة صورة واضحة المعالم لهذه الهوية وخصوصا في مرحلة المد القومي الذي شهده عالمنا العربي في منتصف خمسينيات القرن الماضي ، فكانت مصر من بين هذه الدول وأكثرها خوضا في هذا الموضوع ، عبر طرح سؤال كبير شائك ومعقد ... هل إن مصر فرعونية ام عربية ام قبطية أم رومانية إغريقية ..؟
في حينها عجز الفكر القومي العربي الاقصائي من أن يجد مفهوما اكبر من حيز هذه المسميات ، وينطلق إلى آفاق أوسع وأرحب ... فخلص على نتيجة ان مصر هي ( جمهورية عربية ) ... وهذا خطئ متعمد قفز فيه الفكر القومي على حقائق التاريخ ... يذكر المسعودي في كتابه مروج الذهب ... حين دخل العرب المسلمين إلى مصر سنة 19 هجرية ، وجدوا فيها خليط من الأجناس من يونان وأقباط وتجار عرب وبقايا الفراعنة ، وهذا المزيج الجميل هو ما دعاهم إلى أن يطلقوا عليها ( ارض الكنانة ) ، أي تشبيه بكنانة القوس التي تجمع في حيزها عدة سهام ... وأما العراق فقد تعرض للكثير من الغزوات والاحتلالات ومرت به الكثير من الثقافات كغيره من بلدان العالم إلا إن فرضية نسبه إلى الفرس أو العثمانيين لازالت قائمة الى يومنا هذا ، بل أصبحت حاضرة بقوة في هذه الفترة الحرجة والعصيبة من تاريخه المعاصر ، لأسباب سياسية وطائفية مقيتة ... احتلت الامراطورية الفارسية العراق او كما كان يعرف ( بلاد مابين النهرين ) ... في زمن الملك قورش الثاني (550- 529 ) قبل الميلاد .. واسقط الحضارة البابلية وتم القضاء على الكلدان ، بعدما كانت تسيطر بابل على أجزاء كبيرة من بلاد فارس وخصوصا عيلام ... واستمر الحكم الفارسي للعراق إلى حين دخول الفتح الإسلامي إليه سنة 15 للهجرة ، وخلال هذه الفترة وقع العراق وأهله ضمن دائرة الصراع القائم بين الدول الكبرى آنذاك ، فعندما ينجح الرومان والبيزنط في السيطرة على العراق والتفوق في هذا الصراع كانوا ينتقمون من العراقيين قتلا وحرقا لمدنهم ، فقد قام الإمبراطور الروماني تريانوس بعدما احتل المدائن سنة 115 ميلادية باضطهادهم وقتل الكثيرين منهم ... لكن بالرغم من الضعف السياسي والعسكري الذي عاشه العراقيون في تلك الحقبة إلا أنهم بقوا محافظين على هويتهم وانتمائهم وثقافتهم ، وقد حدث تطورت ديني ولغوي لديهم الا انه لم يأتي بتأثير الدول المهيمنة عليهم ، بل هو تطور داخلي طبيعي ، فقد حلت اللغة الآرامية محل اللغة الاكدية ، أما من الناحية الدينية فقد صمد العراقيون بوجه الديانة المجوسية والديانة الوثنية الإغريقية ، وظلوا يعبدون الكواكب لغاية القرن الأول الميلادي ، لتحل المسيحية محلها بالتدريج ...وقد سبق ذلك إن الامراطورية الفارسية كانت قد وصل نفوذها الى بلاد الشام واحتلت القدس سنة 614 قبل الميلاد وكذلك احتلت مصر سنة 616 قبل الميلاد ... ويذكر المؤرخ اليوناني هيرودوتس انه في زمن الملك الفارسي قمبيز احتلت مصر مرة أخرى من قبله وأصبحت جزء من الإمبراطورية الفارسية ولقبه كهنتها بابن راع وملك الشمال والجنوب ، واتخاذه هذه الألقاب دليل على قوة التقاليد المصرية وضرورتها حتى يستطيع الملك ان يملك الأمر أو ربما الذي دفعه لاتخاذ هذه الألقاب هو معرفته بعظمة وقيمة تلك الألقاب كتقليد للفراعنة ولكن هناك احتمال آخر أنه أراد أن يعطى لحكمه أمام الشعب أنه حكم ذو صبغة مصرية ، وكان أهم هدف من أهدافه هو غزو مصر لأنه كان يعتبرها امتدادا للإمبراطورية الفارسية التي أقرها أباه ... لكن بالرغم من ذلك كله لم ينعت احد مصر بأنها فارسية ، أو ينسب جزءا من شعبها إلى الفرس ... وكذلك سيطرت الإمبراطورية العثمانية لأكثر من أربعة قرون على اغلب البلدان العربية ومارست سياسات عنصرية بحق أهلها كان الهدف من ورائها تصدير لغتها وثقافتها الى شعوب هذه البلدان كسياسة التتريك ... أي جعل اللغة التركية هي اللغة الرسمية لهذه البلدان بدل العربية ، في محاولة منها لطمس هوية هذه البلدان .... لكن بالرغم من ذلك لم تتهم أي دولة كانت تحت وصاية الاحتلال العثماني بأنها عثمانية ....ان العراق لم يكن يوما فارسيا أو عثمانيا كما لم يكن بويهيا أو سلجوقيا أو مغوليا ، وان عملية الانتساب إلى القومية الفارسية ليست شيئا معيبا أو مصدر اهانة للإنسان العراقي بقدر ما هي مغالطة تاريخية يجب فك ارتباطها عبر توضيح الحقائق ... الفارسية قومية لها خصوصيتها وجذرها التاريخي والفرس امة غنية بعطائها الحضارية قبل وبعد الإسلام ، ساهمت في بناء الصرح المعرفي والأخلاقي للإنسانية عبر طابور طويل من الفلاسفة والمفكرين والأطباء والعلماء والأدباء ، وإيران ألان دولة جارة مسلمة وصديقة للعراق وشعبه ... لكن عملية الربط العرقي بين سكان العراق وإيران هي المغالطة الكبيرة ، تقف ورائها أجندات طائفية بسبب وحدة الانتساب المذهبي لأغلبية الشعب العراقي والإيراني ... دخلت بلاد فارس إلى العراق وهو امة عريقة ذات حضارات إنسانية كبيرة متعددة ( البابلية والاكدية والأشورية ) ، كما دخل العرب إليه أثناء الفتح الإسلامي في زمن الخليفة عمر ابن الخطاب (رض ) ... في أواسط القرن السابع الميلادي حين خرجت الجيوش العربية الإسلامية من الجزيرة العربية وأسقطت الإمبراطورية الفارسية التي كانت تهيمن على العراق وإيران وأجزاء من أفغانستان واسيا الوسطى ، وعندما دخلت الجيوش العربية إلى العراق وجدت أمامها حوالي سبعة ملايين من السكان العراقيين بأغلبيتهم الساحقة من المسيحيين ( النساطرة ) ... مع أقليات من العرب والصابئة والأنباط ، وكانت لغة اغلب هذه الاجناس ، هي اللغة السريانية ( الارمية ) العراقية التي سبق لها وان سادت في الإمبراطورية الفارسية وأصبحت لغة الثقافة الأولى جاعلة من اللغة الفارسية البهلوية لغة للبلاط الملكي فقط ... وبعد هذا الفتح الإسلامي حدث تلاقح في الثقافات وامتزاج حضاري فرضته عليهم الطبيعة الديموغرافية للعراق ما بعد الإسلام ... وأنتجت حضارة جديدة بملامح عراقية صرفة امتزجت فيها التسامح الإسلامي ومكارم الأخلاق العربية مع نبل وسمو الديانة المسيحية والإرث الحضاري للسكان الأوائل لهذه البلاد ... فأنتج لنا هذا الموزائيك الجميل الذي يطرز ارض العراق الان ، من العرب والكرد والتركمان والمسيحيين والصابئة وغيرها من القوميات والاثنيات التي تعايشت بسلام لقرون طويلة تحت مظلة كبيرة هي الامة العراقية .
مقالات اخرى للكاتب