لفظية اللغة العربية
تتميز اللغة العربية عن اللغات بأنها لفظية بتفرد لا نظير له. ويقصد باللفظية اعتماد التعبير بها عن الافكار والمشاعر على الألفاظ بشكل كبير. وتتمثل اللفظية بنظامها الصوتي والتركيبي والدلالي: فيتمثل الصوتي باجتماع الأصوات الثقيلة فيها أكثر من أي لغة، مثل: الهمزة والخاء والحاء والقاف والظاء والضاد وهو أصعبها فسميت به (لغة الضاد)(1). ويتمثل التركيبي بصعوبة قواعد النحو وتصريف الأسماء وأبنية الأفعال، ومع الصرامة ضعف اطراد القياس. ويتمثل الدلالي بميلها إلى التصوير، والألمان يسمونها (اللغة التصويرية) او (الصورية)؛ فالعرب يتكلمون صوراً كقول الرسول الأعظم () (تلك مضمضة محت ذنوبه)(2) وقول الإمام علي () عن مروان بن الحكم (أما إنَّ له إمرة كلعقة الكلب أنفه)(3). ومن أقوالهم الصورية المشهورة: ذات الزُّمَيْن، وكَثْرَة ذات اليد، ويدَ الدهر، وتخاوَصَت النجوم، ومَجَّت الشمسُ ريقها، ودَرأ الفيءَ، مفاصل القول، أتى بالأمر من فصِّه، رَ حْب العَطَن، غَمْرُ الرداء، ضيّق المَجَمّ، قلِق الوَضِين، رابط الجأش، بعيد المُسْتَمَرّ، شراب بِأنقع، هو جُذَيْلُها المحكك وعذيقها المرجَّب(4). ولا زالت في عاميتنا ظلال من تلك الطبيعة مثل (جعلها بدون ملح) بدل ألحَّ و(برقبتي عائلة) بدل لديّ مسؤولية.
ويضاف إلى ذلك كثرة مترادف ألفاظها فللإبل ألف اسم، وللأسد خمسائة، وللحية مائتان، وللحجر سبعون(5). وصرامة دلالة اللفظة على معناها، فمثلاً يوجد معنى عام وخاص للفظة؛ فـ(قرِمَ وعامَ) يقالان بشكل عام لمن اشتهى، لكن لا يستعمل قرم إلا مع اللحم ولا عام إلا مع اللبن فيقال قرِمتُ الى اللحم وعِمتُ الى اللبن ولا يقال بالعكس(6). ومنها اختصاص كل لون بلفظ يبين شدته لا يستعمل مع غيره فيقولون (أحمر ساطع، وأبيضٌ ناصع، واصفر فاقع، وأخضر نَضِر، واسود فاحم...).
وهذه السمات جعلت اللغة العربية تحب العزلة لأنها تضمن لها السلامة، وتمنعها من السهولة التي تقضي عليها بالتدريج. ولأجل ذلك قال الخليفة عمر بن الخطاب () لأهل البصرة " وددت أن بيننا وبين فارس جبلاً من نار لا يصلون إلينا منه ولا نصل اليهم، كما قال لأهل الكوفة وددت أن بينهم وبين الجبل جبلاً من نار لا يصلون إلينا منه ولا نصل إليهم"(7) حرصاً منه على اللغة(8)
ولكن العرب بخلاف لغتهم كانوا لا يحبون العزلة تماماً، فهم أكثر شعوب الأرض رغبة في الزواج من الأجنبيات كزواج الفاتحين في العراق وإيران والمغرب والأندلس وغيرها. وهذا الاختلاط المفتوح مع الأعاجم أدى إلى فقدان السليقة وظهور العاميات.
وقد أشر الشعر الجاهلي لفظية اللغة العربية عبر تقاناته الصعبة مثلها، وهي بمجملها مظاهر لفظية صارمة :الأوزان والقافية الموحدة ونظام البيت الهندسي الشطريني، فكانت أشبه بطوربيدات ضخمة اثبت الزمن إلى اليوم أن اللغة العربية لا تتحرك بالإبداع بدونها، وان كانت صعبة. وحاولت العصور الشعرية التخفيف منها أو إلغاءها، بالموشح والمسمطة والبند وشعر التفعيلة وقصيدة النثر ولكنها لم تكن حاسمة لغلبة طبع اللغة على تطبع التجديد.
وقد مثل الشعر الجاهلي عالم اللفظية الساحر، فبيت امرئ القيس:
ترى بعر الآرام في عرصاتها وقيعانها كأنه حب فلــــــفلِ(9)
ليس فيه عدا الألفاظ من معنى سوى أن البعر يشبه الفلفل.. ووقف طه حسين أمام قصيدة سويد بن أبي كاهل التي مطلعها:
بَسَطَت رابِعَةُ الحَبلَ لَنا فَوَصَلنا الحَبلَ مِنها ما اِتَّسَع(10)
فقال:" وهذا الشعر مألوف تحبه النفس وتستظرفه لسذاجته وجمال لفظه لا لشيء آخر"(11).
بينما تهتم باقي اللغات بعالم المعنى تعويضاً عن عالم اللفظ الذي لا تتميز به كتميز اللغة العربية، فاللفظ عندها ثوب طارئ على الفكرة وهي الأهم في الإبداع وان كان اختيار اللفظ واستشعاره واستبناؤه ضرورة في كل شعر، إلا أن الاشتغال الأكبر على المعنى. وقد دعا اشتغالها على المعنى إلى خلق عالم جمالي معنوي خلاب يوازي عالم اللفظ، وهو متحقق في الشعر العالمي أجمع.
وكان من تداعيات صعوبة العربية واتكائها على اللفظية في مجمل ابداعها، صعوبة ترجمة الشعر العربي إلى اللغات الأخرى، بينما كانت أدبيات تلك اللغات، لاعتمادها على المعنى والقدرة على إعادة التشكل الإبداعي بأي ألفاظ، سهلة الترجمة. لذا وصلنا شكسبير بكامل تعبيريته، بينما وصل المتنبي إلى أوربا مجرد مؤرخ لبطولات سيف الدولة، وبدلا من أن يستنبطوا صوره الرائعة استنبطوا معلومات حربية من شعره، لان ثلثي شعر المتنبي - لاعتماده على تعبير وجمال ألفاظه - سقط في الترجمة.
وقد ذكر الجاحظ صعوبة ترجمة الشعر العربي بسبب تمظهراته اللفظية في قوله :" وقد نُقِلَتْ كتبُ الهند، وتُرجمتْ حكم اليونانيّة، وحُوِّلت آدابُ الفرس، فبعضها ازدادَ حُسناً، وبعضها ما انتقص شيئاً، ولو حوّلت حكمة العرب، لبطل ذلك المعجزُ الذي هو الوزن، مع أنَّهم لو حوَّلوها لم يجدوا في معانيها شيئاً لم تذكرْه العجم في كتبهم"(12).
ولذا نجد شعراءنا الستينيين ومن تلاهم يكتبون بلغة خالية من الجزالة اللفظية، غنية في المعنى والشعرية لتيسير ترجمتها ووصولها إلى العالم ومن ثم اشتهارهم.. ولعل العالم كله أشر حقيقة لفظية اللغة العربية؛ ذكر المقّري: " قيل: إن الحكمة نزلت من السماء على ثلاثة أعضاء من أهل الأرض: أدمغة اليونان، وأيدي أهل الصين، وألسنة العرب"(13).
بداية المحنة
بلغت اللغة العربية ذروتها في التعبير بانسجام مع طبيعتها في عصر ما قبل الإسلام، فكان عصر بلاغة وفصاحة وسليقة حتى نزل القرآن الكريم فهزمت به هزيمة ساحقة، وبان قلة ما لديها أمام ضخامة ما حمله من مضامين ومظاهر تعبيرية جديدة وحاسمة. ولكن القرآن لم يجعلها مغلَّبة، بل أتاح لها فيما بعد الغلبة والانتشار، إذ استكملت نواقصها بالقدرات المختلفة التي منحها إياها كالعمق والدقة والظل والاتساع والمعنوية والعلمية والتجدد.
ولكن المؤكد أن العرب بدؤوا يفقدون سليقتهم اللغوية بعد الإسلام بالتدريج، بسبب (الاختلاط بالأعاجم). جاء أن أبا الأسود الدؤلي اشتكى للإمام علي أن ابنته لا تفرق بين الاستفهام والتعجب!! مع عظمة منزلته وأصالة محتده، وتقدم زمنه، فقال له الإمام: "هذا بمخالطة العجم"(14). وذو الرمة، وهو شاعر بدوي فحل، ويفترض أن يكون حجة في اللغة، اخذ عليه الاصمعي استعماله لفظة (زوجة) والعرب تقول (زوج فلان) في قوله:
أَذو زَوجَةٍ بِالمِصرِ أَم ذو خُصومَةٍ أَراكَ لَها بِالبَصرَةِ العامَ ثاويا
ورد الاصمعي ذلك الى تحضره(15). بل مع تقدم الزمن كثر من قيل عنهم (لحانة) - من اللحن وهو الخطأ في النحو- ومن مختلف الطبقات حتى أبناء الخلفاء الامويين وهم من ذروة العرب (فهر قريش)؛ إذ كان الوليد ومحمد ابنا عبد الملك بن مروان لحّانين(16). بل سُجّلت على فقهاء الدين أخطاء لغوية؛ جاء في (كتاب كشف اللثام): " قل فلان عنّين بيّن التعنين ولا تقل بين العنّة كما يقوله الفقهاء"(17).
وهذا جعل العربية بعد الإسلام مباشرة تحدّث قاموسها باستمرار، فابتدأ مشوار تبديل جلدها بجلد جديد أكثر حياة، حتى بلغ ذروته في العصر العباسي ونزولا الى العصر الحديث. وللأسف رافق ذلك موت السليقة العربية ليصبح تحصيلها من الدفاتر أو الصحف بدل الأفواه عن طريق علماء يقارنون علمهم بلغة البدو الخالصة، وكانوا يعيرون المتعلم بأنه صحفي إذا تلقى العربية من الصحف تعليماً وليس من معدنها سماعاً.
وفي العصر العباسي أو قبله قليلا بدأت تظهر لغة دون اللغة الأصيلة هي خليط من كلمات عربية وأجنبية لتكّون (العامية العباسية) التي تجلت بعمل أدبي فذ هو (ألف ليلة وليلة). وصارت هذه اللغة تشكل قاموساً ثانوياً إلى جنب القاموس العربي في الأدب بله اللغة اليومية، وقد حمل الشعر العباسي الكثير من الألفاظ العامية والأجنبية الصريحة بلا تعريب ولاسيما من الشعراء الأعاجم، كقول ابن الرومي:
أعني سليمانَ الذي في رَمسهِ قمرٌ و(شِيرُ)(18)
وقد تأفف الجاحظ في كتابه (البرصان والعرجان) بقوله " وأنا اعلم أن عامة من يقرأ كتابي هذا وسائر كتبي، لا يعرف معاني هذه الأشعار، ولا تفسير هذا الغريب... فقد صرت كأني إنما اكتبها للعلماء. والله المعين"(19).
وصار كل جيل قادم يحس بوطأة ثقل اللغة ويجهد في التخفيف من ألفاظها وأساليبها بألفاظ وأساليب اخف وأوجز هي غالباً مستوردة وباطراد حتى انتهت إلى العامية التامة اليوم. ونقرأ لصفي الدين الحلي ابياتاً تبين الضيق بالألفاظ القديمة:
إِنَّما الحَيزَبونُ وَالدَردَبيسُ والطخا وَالنُقاخُ وَالعَطلَبيــــــــــسُ
وَالسَبنَتى وَالحَقصُ وَالهِيَقُ وَالهِجرِسُ وَالطِرقَسانُ وَالعَسطوسُ
لُغَةٌ تَنفُرُ المَسامِعُ مِنهــــــا حينَ تُروى وَتَشمَئِزُّ النُفــــــــوسُ(20)
وعبَّر الرصافي عن عزلة المثقف المعاصر باستعماله لغة غير واقعية لا توجد إلا في بطون الكتب، في حين يتكلم الناس لغة حياتية حية، بقوله مخاطباً الشاعر الشعبي عبود الكرخي:
دع هذه اللغة الفصحى فنحن بها ظلنا نخاطب جيلا غير موجودِ
وبسبب التخفيف والاستيراد المستمر كانت تظهر في كل جيل كتب (تصحيح اللغة). ولكن هذه الكتب ركزت على الانحراف في نطق بعض الألفاظ، وتغير دلالة بعضها الآخر، دون ان تعتني بتمييز الدخيل وطلب محاربته كثيراً. وعلى الرغم من جهودهم في الحفاظ على اللغة العربية، إلا أنهم أسهموا في تضليلها؛ بسهوهم ووهمهم وعدم إحاطتهم فاختلط اللفظ العربي بغير العربي في الاستخدام وكتب اللغة.
ومن يدقق في قواميس اللغة يجد خلط اصحابها وتمحلهم في اشتقاق أصل عربي لكل لفظ أعجمي. ومن ذلك لفظة (البلد) وهي لاتينية أصلها (Balatium)(21)، اشتق صاحب الصحاح فعلا عربيا منها فقال: " بَلَدَ بالمكان: أقام به؛ فهو بالِدٌ. والبَلْدَةُ والبَلَدُ: واحد البلادِ، والبُلْدانِ"! ويبدو هذا المعنى غريباً بين المعاني العربية الحقيقية للفظ العربي التي أضافها وهي " والبَلادَةُ: ضدُّ الذكاء. وتَبَلَّدَ: تكلَّف البَلادَةَ. وتردَّد متحيِّراً. والبَلَدُ: الأثر؛ والجمع أَبْلادٌ"(22). كما ارجع لفظة تلاميذ (وهي فارسية) إلى أصل (تلم) قال: "التلام: بفتح التاء: التلاميذ وسقطت منه الذال"(23) فاسقط الذال ليستقيم له الأمر. ورد الزبيدي الفانوس وهي فارسية أيضاً إلى الأصل (فنس) بقوله: " الفَانُوس: النَّمَّامُ، وقد فَنَسَ، إِذا نَمَّ"(24). وتطول من هذا الخلط القائمة.
اختراق اللغة العربية
اخترقت اللغة العربية مرتين: مرة بدخول الأمم الأخرى إلى الإسلام، وتحول اللغة العربية إلى لغة الدين وصيرورتها لغة مشاعة غير مقصورة على العرب. فأضافوا إليها من لغاتهم وانقصوا منها مفردات وصيغاً وطبيعة. وكان العصر العباسي بما اقتضاه من الاختلاط التام ورفع الحواجز، أكثر خرقاً.
والمرة الثانية في العصر الحديث عن طريق الترجمة والاحتلالات، فاتسع الخرق غير مقتصر على الفكر والأدب، بل إلى الحياة بكل جوانبها أيضاً؛ وذلك بسبب التصحر شبه التام الذي أصاب العرب، فتنازلوا عن كل شيء لمصلحة الغرب علماً وفكرا وأدبا وادارة واقتصادا وسياسة وحتى قانوناً. وغالباً تقتصر الترجمات على مترجمين مثقفين باللغات الأجنبية مقابل قلة معرفتهم بالعربية، فوضعوا كلمات غير دقيقة في المعنى والقياس.
وشهرّت صيغ لا تعرفها العربية أو تتقبلها طبيعتها مثل قولهم (أنا ككاتب) وهذه الكاف لا نظير لها في العربية وهي ترجمة لـ(as) والصحيح (أنا بوصفي كاتباً). مما جعل العربية في خطر اكبر من الأول، وتراجع افقدها رونقها وبريقها لأنها نبشت من الجذور، على الضد من الاختراق الأول الذي أغناها فبدت اشد رونقا وبريقاً.
وذكرت الدكتورة فريدة لعبيدي تأثير لغة الإدارة ولغة الصحافة سلباً في اللغة العربية ودفعت إلى انحرافها. ومردّ ذلك أن ماكنة الإدارة والصحافة مستوردة من الخارج، ولكليهما طبيعة لغوية مستقلة. وعن لغة الصحافة قال طه حسين " الصحافة قاتلة للأدب". وذلك لأنها حملت إليه آليات تعبيرية لا تعطي التميز الذي تحرص عليه لغة الأدب بميلها إلى تبسيط اللفظ وتكثيف المعنى الاخلاء من الجمال والخيال والرونق. وقد سادت لغة الصحافة بوصفها (فصحى العصر) ولا يخفى تأثيرها في الشعر المعاصر والأدبيات المختلفة. بل إن تأثيرها في موطن نشأتها (الغرب) كان علامة فارقة؛ فروايات أرنست همنغواي كتبت بلغة صحفية مطوعة للأدب، لأنه كان يعمل مراسلا حربياً، ومن وحي ميادين الحروب كتب أهم رواياته.
وعلى أهمية الصحافة في حياتنا، فان الإدارة أكثر منها توغلا وتأثيراً في حياتنا المعاشة واللغوية. فان دوائر الدولة باختلاف اختصاصاتها العلمية والخدمية، والعسكرية والمدنية، تستعمل لغة إدارية. وهذه اللغة عبارة عن كليشهات جاهزة لا اجتهاد فيها أو إضافة، وغالبها جاء مستورداً مع الإدارة التي حملها المحتل. فإداريات الدول العربية قائمة على إداريات الدول التي احتلتها. وممكن وصف اللغة الإدارية بأنها لغة مباشرة، بمعنى أن كل كلمة فيها لها مدلول مقصود لذاته، بل إن كل موضع تأخذه العبارة الإدارية يتم اختياره عن عمد لدواعي الدقة والوضوح، حتى وان كان ذلك يؤثر في سلاسة الأسلوب وبلاغته(31).
وممكن ردّ سيادة اللغة العربية في عصر انتهاكها الأول (الأموي والعباسي) إلى تسيّد العرب ووجود نخبة من العلماء الفحول الغيورين، فضلا عن الحركة العلمية والثقافية الكبيرة، ورواج سوق اللغة العربية، واستمرار الإنتاجية في مجالاتها المختلفة. وان تحرك كل هذه الأسباب إلى الاضمحلال والضعف في الوقت الحاضر قاد إلى فقدان اللغة العربية قدرتها على الإبداع المعهود وعدم احتفاظها بمكانتها السامية.
مواطن الخرق
الألفاظ والتراكيب
وهي الميدان الأكبر الذي اخترقت منه العربية، اذ أمطرت بألفاظ وتراكيب لا عهد للعرب بها، وكان الأعاجم إلى جنب ما بثوه من ألفاظهم الأعجمية، أساؤوا استعمال العربية فحرفوها مع الوقت نطقاً ودلالة حتى عند العرب الاصلاء أنفسهم، فشكل ذلك جميعه (اللغة العامية).
وقد ظهرت المعجمات وكتب تصحيح اللغة وسلامة اللغة العربية مثل: (أدب الكاتب) لابن قتيبة، و(درة الغواص في أوهام الخواص) للحريري، و(قل ولا تقل) لمصطفى جواد، و(لغة الجرائد) للشيخ إبراهيم اليازجي، و(الكتابة الصحيحة) لزهدي جار الله، لتصحيح الانحراف وقلما عالجت إصلاح اللغة ببرنامج تكاملي، فكان جهدها أحادياً جزئياً.
وممكن وصف تصويباتها بانها: دلالية (مثل البؤساء والبائسين: فالأول الشجعان والثاني الفقراء)، ونحوية (مثل موضع استخدام إذاً بالألف وإذن بالنون) وصرفية (مثل جاء السياح وليس السواح) وإملائية (مثل سوريَة بتخفيف وتاء مربوطة وليس سوريّا أو سوريّة بتشديد أو ألف) وتركيبية (مثل فلان متضلع من اللغة وليس فيها) وضبط (مثل جاؤوا من صوب وحدَب وليس حدْب)، والخطأ في الجمع (مثل جمع مدير مديرون وليس مدراء)، والجنس (مثل الكِرش مؤنثة والبطن تؤنث وتذكر)، وتوخي الفصاحة (مثل حلقتُ بالموسى وليس بالموس) وغير ذلك. ومع هذا الجهد الجزئي وقع أصحاب المعجمات كلهم – كما ذكر محمد العدناني- في الخطأ(32).
وكان تعاقب الدول المحتلة وشعوبها في أرض العرب - ولاسيما العراق – قد حمل سيول الألفاظ والتراكيب والمصطلحات الأجنبية إلى حياة العرب لتنافس لغتهم وتستحوذ على استعمالاتهم الرسمية واليومية حتى استسلموا لها بلا مقاومة لشدتها وعجزهم عن المواكبة.
فإذا ترك الأقدمون ألفاظ الزهور والعطور كما هي لعدم وجود أصل واقعي لها في حياة العرب مثل: السوسن والآس والنسرين، وأسماء الأكلات المستوردة مثل السكباج والفالوذج واللوزينج، فإن المعاصرين لم يلووا على غير الصمت والتكتف أمام اقتحام الالفاظ والعبارات الاجنبية كأسماء الأدوية وهي بحر لا قرار له، وأسماء المخترعات وهي أوسع، فضلا عن تعابير كثيرة في مجالات مختلفة.
وقد أحصى الدكتور مجيد محمد (3000) كلمة أعجمية في كلام العراقيين الفصيح والعامي، وردتنا من أمم ودول عاشت او مرت على ارض العراق هي:
عبرية، مثل:شاقول، فز (نهض من نومه).
عراقية قديمة، مثل: جص، تنّور.
يونانية، مثل: بانيو، أسطول.
لاتينية، مثل: بلاط، أنتيكة.
مغولية، مثل: خاتون، أغاتي.
ألمانية، مثل شتايگر، نمرة،
انكليزية، مثل: أجندة، باج.
إيطالية، مثل: استمارة، بالون.
تركية، مثل: باجي، باغة.
فارسية، مثل: بصمة، بواسير.
كردية، مثل: نمّونة (نموذج)، شيشة.
صينية، مثل: تمَّن، فرفوري.
فرنسية، مثل: أرشيف، باليه.
هندية، مثل: بهارات، بلم (زورق صغير)(33).
وحمل الاحتلال الى العرب ولغتهم القاموس الإداري بمصطلحاته وتراكيبه الجاهزة والمترجمة في الاختصاصات كافة: السياسي والعسكري والمدني والاجتماعي والاقتصادي القانوني.. الخ. ومنها على سبيل المثال لا الحصر مصطلحات مثل: الرأي العام، الركود الاقتصادي، السوق السوداء، الأزمة العالمية، التهميش، العنصرية، الإرهاب. وتراكيب مثل: بناءً على، في ضوء، نظراً لـ، طبقاً لـ، بموجب، بمقتضى. تجدر الإشارة، علماً بأن، على هامش، وعليه تمَّ، وعلى اثر ذلك. وعبارات مثل: ذر الرماد في العيون، يلعب بالنار، لا جديد تحت الشمس، القى المسألة على بساط البحث، يعطي صوته(34).
بينما حققت العربية ابان قوتها وقوة الدولة الإسلامية وقدرتها على الاحتلال والتوسع انتشاراً لم تحققه الانكليزية والاسبانية في العصر الحديث. واستطاعت ان تدس مفرداتها في لغات أكثر الامم في الشرق والغرب ومن مفرداتها المستعملة في اللغات: عنبر Amber، زعفران Safaran، كافور Kampfer، تمر هندي Tama rinda، حشيش Haschisch، مسك Muskat، صندل Sandelholz، قبة Alcove، ثور thoro، مخدة moadds، الجبر Algebra، طوفان Typhoon...الخ(35). كما اخذت اللغات تراكيب وجملاً وأمثالا عربية كثيرة.
المعاني
وتم اختراق اللغة العربية من جهة المعنى، وهو باب خفي دخلت منه اللغات الأخرى. إذ تأتي تلك اللغات مكتسية ألفاظا عربية بمعان أجنبية، فهي " كلمات عربية محضة ركّبت تركيباً عربياً خالصاً لكنها تفيد معنى لم يسبق لأهل اللسان أن أفادوه بتلك الكلمات، فقولهم طلب يد فلانة، كلمات عربية مركبة تركيباً عربياً، لكننا اذا خاطبنا بها العربي القح لم يفهم منها المغزى الأجنبي؛ لأنه اعتاد خطب فلان فلانة"(36).
وعملت الترجمات على هيمنة اللفظ الاجنبي هيمنة غريبة حقاً؛ فهي تأخذ كل معاني اللفظ الأجنبي الذي يناظر معنى واحداً فقط في اللفظ العربي، فتستعمل تلك المعاني بلفظ عربي لا يدل عليها. ومن ذلك كلمة (engaged) فيقولون: (Ali is engaged = علي مشغول) و (suha is engaged = سهى مخطوبة)؛ فمشغول تقابل engaged بلا ضير فيها او خطأ، ولكن تسأل فتاةً فتقول لك أنا مرتبطة وهي تريد أنا مخطوبة. لأننا أخذنا بقية معاني الكلمة الانكليزية، ولا تدل مرتبطة على مخطوبة في العربية.
ومثل ذلك (interest) فهي تعني كما في قاموس أكسفورد (المصلحة والفائدة)(37). وتعني أيضاً الربا بعينه؛ جاء في مسرحية (تاجر البندقية) على لسان انتونيو يخاطب شايلوك اليهودي المرابي "was this inserted to make interested good = هل ذكرت هذا لتبرير الربا"(38). وعندما انتقلت إلينا صرنا نستعمل المعنيين معاً فنقول (قرض بفائدة) ولا نقوق بربا، والفائدة معنى عام في العربية لا يدل على هذا المعنى، بل اللفظ العربي له هو (الربا)، ولكن طمس هذا اللفظ بشكل تام.
ومثال آخر لفظة (sex) فهي تعني عندهم الغريزة وممارستها، وتحديد النوع الإنساني ذكر أم أنثى. واللفظ الانكليزي بمعنى النوع يقابل في العربية (الجنس) قال الفراهيدي: الجِنسُ: كلُّ ضربٍ من الشيء والناس والطَّير، وحدود النَّحو والعروضِ والأشياء ويجمع على أجناس. ويقول ابن منظور: " الجنس أعم من النوع "(39). أما المعنى الثاني فيقابله الجماع، والنكاح، والمضاجعة، المباضعة. ولكننا صرنا نستخدم كلمة الجنس للنوع والمباضعة معاً أخذاً بكل معاني الكلمة الأجنبية، حتى بدا أن العرب استعملوا الجنس للمضاجعة وليس كذلك مطلقاً فقولهم (مارس الجنس) يقابها في العربية (مارس النوع) وهي جملة لامعنى لها ولا تدل على المضاجعة.
وروجت المسلسلات تركيباً غريباً على العربية كقولهم (هذا البيت خاصتي) و(هذه السيارة خاصتها) وهي ترجمة لـ(it's my own home) (it's her own car)، ويقابله في العربية الصحيحة (هذا بيتي الشخصي) و(هذه سيارتها الشخصية). أما خاصتي وخاصتها فلا يستعمل هذان اللفظان إلا للعاقل وبمعنى (الخاصة من الأصحاب والناصرين).
كما شهّر القانون استخدامات مماثلة. ومن ذلك (قانون العقوبات) ترجمة لـ(penalties). جاء في (قاموس أكسفورد) لتعريف العقوبات: (penalties: a punishment for breaking a law or rule) أي (ما يعاقب به على كسر قانون أو حكم). وأيضاً (for people who drop litter)(40) (وما يعاقب به الذي يرمي النفايات في غير أماكنها) وفي هذه الحالة غير المختصة بالقانون، يكون معنى اللفظة (التعذيب) بدرجة معينة.
وترجمة (penalties) بـ(قانون العقوبات) غير دقيقة بل خاطئة، لأن العقوبة في اللغة العربية لا تعني إصدار حكم على مجرم جراء ذنب، فهي لا تقابل (penalties) في الانكليزية بهذا المعنى، بل في المعنى الثاني، فهي تعني بشكل أدق (التعذيب) قال الراغب الأصفهاني " والعقوبة والمعاقبة والعِقاب يختص بالعذاب"(41) مثل قوله تعالى (فَحَقَّ عِقَابِ)(42) أي عذابي، وقوله تعالى (وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُواْ بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُم بِهِ وَلَئِن صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِّلصَّابِرينَ)(43). وقال ابن تغري بردي: " فلم يدع ابن البشيري نوعاً من العقوبات حتى عاقب ابن أبي الفرج بها، فلم يعترف بشيء"(44).
أما الحكم الذي يصدره القاضي على متهم، ففي العربية يستخدم لها: القِصاص أو القود. غير أن القوَد يختص بالقتل وحده، قال الجوهري:" القَوَدُ: القصاصُ، وأقَدْتُ القاتلَ بالقتيل، أي قتلته به. يقال: أقادَهُ السلطانُ من أخيه.واسْتَقَدْتُ الحاكمَ، أي سألته أن يَقيدَ القاتلَ بالقتيل"(45). أما القِصاص فهو التقاص في الجِراحاتِ والحُقُوقِ شَيْءٌ بعد شَيءٍ، "(46). وجاء في الذكر الحكيم (وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَاْ أُولِيْ الأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ)(47). وبهذا فالعقوبة في اللغة العربية لا تعني القِصاص أو القود، وهما الأدق الأصلح للمعنى. فأصبحنا نستخدم لفظة عربية تحمل معنى أجنبيا.
وبينما اختفت لفظة الزنا التي تدل على الطوعية من القاموس القانوني العراقي، استعملت لفظة (الاغتصاب) التي تدل على القسرية، ذلك لان القانون لا يعاقب المرأة اذا زنت برضاها، ويعاقب من اغتصبها بلا رضاها. والاغتصاب ترجمة لـ(Rape) التي تعني سلب شخص ما بالقوة(48) والمجامعة القهرية.
والغصب والاغتصاب في أصل اللغة كما ذكر الجوهري: " أخذ الشيء ظلماً. تقول: غصبه منه، وغصبه عليه، بمعنى. والاغتصاب مثله"(49). وقد ردد بعض المعجمات مثل أساس البلاغة ولسان العرب والمصباح المنير ما ذكر ابن الاثير في كتابه (النهاية في غريب الحديث) بشأن الحديث (انه غصبها نفسها) " أراد واقعها كرهاً، فاستعاره للجماع"(50). فالاغتصاب الذي بمعنى المجامعة القهرية استعارة وليست أصلا، كما أنهم يقرنون بها النفس. ولما كان الاغتصاب جرماً دولياً فالأقرب إن الاغتصاب وان وجد أصلا في اللغة العربية فهو مترجم من (Rape).
كما استعملت الألفاظ العربية بغير معانيها، مثل الاكل فكل معاني الكلمة الحقيقية والمجازية لا تتضمن (الحزن) بينما يشيع في العامية (لا تاكل هم) ويقول الكرد (غم مخو) أو (خست نخر) كما يستعمل الأكل للحزن الفرس والترك، وقد جاءتنا منهم. ومثلها (بلا روح) فهي لا معنى لها في العربية غير ميت، بينما يقول الأعاجم: الترك والفرس والكرد (جان سز) أو (بي جان) بمعنى (معتل الصحة) و(ضعيف البنية)(51)، وقد انتقل هذا الاستخدام إلينا فصرنا نقول (مسكين بلا روح).
الصيغ والأساليب
وسجلت الصيغ والأساليب الأجنبية خرقاً آخر. من ذلك قولنا في الرياضة عن نتيجة فريقين صيغة (واحد كل) ترجمة نصية لـ(one both) وبنفس تسلسل الكلمات وإلغاء المثنى لان الانكليزية ليس فيها مثنى، والصيغة الصحيحة (واحد لكل منهما). كما نقول في الألقاب العلمية (أستاذ مساعد) ترجمة لـ(professor assistant) معنى وتسلسلا، وذلك لأنهم يقدمون المضاف إليه على المضاف، والصحيح (مساعد أستاذ) وهو أسلوب وصيغة لغتنا العربية، فصرنا نستعمل ما هو عكس منطوق لغتنا. كما نستعمل لفظة (حوالي) للمكان والزمان؛ فنقول (حوالي كيلومتر) و(حوالي شهر) وهو واقع لغوي انكليزي صحيح اذ تستعمل (about) للزمان والمكان. بينما في العربية تستعمل حوالي للمكان فقط فيقال (حوالي بيته) ولا يقال حوالي سنة، بل (نحو سنة) أو (نحو من سنة).
ونود أن نقول أن هذا الاختراق أقبح الاختراقات؛ لأنه يقلب منطوق اللغة، وهو آخر معاقل الانهزام. وكانت اللغة العربية في عصر سيادتها قد فرضت أساليبها على لغات الشعوب التي خضعت للإسلام بقدر المجاورة؛ فالسورانية تأثرت بالعربية في تقدم المضاف على المضاف إليه كما في تسمية حزبهم (ﭘارتي ديمقراتي كوردستان) (الحزب الديمقراطي الكردستاني) فهو بالترتيب العربي نفسه للجملة في المضاف والمضاف إليه. بينما كردية تركيا لعزلتها وبعدها بقيت إلى الآن على النظام الهندواوربي في تقديم المضاف إليه على المضاف، فقد أطلقوا على إحدى جمعياتهم اسم (كردستان تعالي جمعيتي) أي (جمعية تعالي كردستان) وتبدو الكلمات في الجملتين العربية والكردية مقلوبة. ومثله (شرفنامه) وليس نامي شرف، و(شاهنامه) وليس (نامي شاه)، كما يقول الانكليزي (john's pen = قلم جون) وليس pen john. مع وجود جمل إضافة سورانية وفيلية تتبع النظام الهندوأوربية مثل (خالو ژنم= زوجة خالي) وليس ژن خالوم.
أما الفيلية فلقوة احتكاكها بالعربية أصبحت فضلا عن اتباعها في المضاف والمضاف إليه، تستعمل في الجملة المتعدية نفس نظام الجملة العربية (الفعل ثم الفاعل ثم المفعول به مثل (دۆمه): أي أعطيته (دۆ / م / ـه– فعل/ فاعل/ مفعول به) في حين يقول السوراني (ئه وه م دا) ئه وه / م /دا - مفعول به/ فاعل/ فعل) وبقي الفيلي في الجملة اللازمة يقدم كغيره من الهندواوربيين الفاعل على الفعل.
ولكن علينا ان نسجل بوادر تأثير الآخر في العربية مبكرا ولاسيما في العصر العباسي. فالعربية تقدم الفعل على الفاعل دائما الا لسبب بلاغي فتقول (جاء علي). ولكن بسبب تأثير الفهلوية والفارسية شاع تقديم الفاعل على الفعل بين العرب حتى تقبل سلوكاً لغويا. وهم يقولون (علي اومد) و(علي يات) ولا يقولون (اومد علي) او (يات علي) مطلقاً، كما يقول الانكليز (Ali is came) ولا يقولون (came Ali) مطلقاً؛ فالجملة في اللغات الهندواوربية إما فعلية (من فعل وفاعل) أو اسمية (من مبتدأ وخبر).
أما (علي جاء) المفسرة بـ(علي) مبتدأ و(جاء) جملة فعلية من جاء وفاعل مستتر بتقدير خبر للمبتدأ، فهي شاذة في لغة العرب. وكان المرحوم الدكتور مهدي المخزومي يعترض على جعل (جاء) جملة خبرية من فعل وفاعل مستتر ويقول: كيف يكون الفاعل مستتراً وهو علي (المعلوم). واقترح أن يعدَّ (عليا) فاعلاً متقدماً على الفعل جاء. وفات المرحوم المخزومي أن القضية أبعد من ذلك، فهي قانون لغة وهويتها المستقلة. وأرى جازماً أن هذه الصيغة فرضها الموالي على سليقة اللغة العربية، ولما سادت احتال النحاة لوضع قاعدة لها، وسنجد النحويين يحتالون للمزيد من أساليب غير فصيحة في المدرستين النحويتين: المصرية والأندلسية.
ومن الصيغ التي استوردت حديثاً إلغاء (ابن) بين أسماء الأعلام. فالعرب يقولون مثلاً (علي بن أحمد بن لطيف بن كريم القرشي. فعلي مبتدأ وابن خبر، وباقي السلسلة مضاف ومضاف إليه. أو علي خبر لمبتدأ محذوف تقديره هذا، وابن بدل من أحمد، وباقي السلسلة مضاف ومضاف إليه. ولكن بتقليد الغرب صرنا نقول (علي أحمد لطيف كريم القرشي). وفي هذه الحالة لا يقدم النحو العربي اعراباً مقنعاً لأعلام السلسلة؛ فإذا قدرنا علياً بمبتدأ فأحمد لا يصلح خبراً، والأسماء بعده لا تصلح بدلاً أو صفة. وكذلك إذا قدرنا علياً خبراً لمبتدأ محذوف تقديره هذا. وهكذا فالنحو العربي يقتضي وجود ابن بين الأعلام. كما اشتهر لدينا – تقليداً للغرب - الاختصار في سلسلة النسب والاقتصار على الاسم الأول واللقب فنقول (علي القرشي).
كما أشاعت الإدارة قوانين لغوية تقاطع مع قانون اللغة العربية مثل: استعمال شبه الجملة (حرف + اسم مجرور) على نحو لم تعرفه الفصحى مثل (بالتالي) والاستعمال العربي (من ثم). واهمال حرف العطف بين المعطوفات المتعددة والاكتفاء بإثباته قبل المعطوف الأخير(52) وغير ذلك. وفي كتب وزارة التعليم العالي تتكرر عبارة (نشيركم الى كتابنا المرقم كذا) في حين لا يأخذ الفعل نشير مفعولا به، والصحيح نلفت عنايتكم الى كتابكنا المرقم كذا، أو راجعوا كتابنا المرقم كذا.
العربية اليوم
تعاني العربية اليوم التهاباتٍ كثيرة، وأمراضاً مزمنة عدة، وشللاً في مفاصل مختلفة، فهي غير قادرة على مفارقة المشفى إلا قليلاً. فكل لغة حية تشتغل على أربعة مستويات: الاستهلاك اليومي (حديث الناس)، والإبداع الأدبي (شعر ونثر)، والتعبير الإداري (المؤسساتي) والاصطلاح العلمي (للعلوم المختلفة).
بالنسبة للغة العربية: المستوى الأول أصبح عاميا تماماً تربطه خيوط واهية جذرية بالفصحى؛ وقد عقد المنفلوطي حوارا افتراضياً بين مصري صعيدي ومصري من العهد الماضي فسجل مفارقات توضح استحالة التفاهم بين أهل الحاضر بعاميتهم وأهل الماضي التليد بلغتهم العربية القحة.
والمستوى الثاني لا يختلف كثيراً عن الأول؛ فالشعراء والكتاب صاروا يكتبون بما اصطلح عليه (اللغة الثالثة)، وهي تبعد مرحلتين عن لغة العرب، وتمتلئ بالكلمات والصيغ والأساليب الأجنبية والعامية. وقد كتب احد فحولهم المبجلين (الحب في هذه الأيام متشابه كأوراق الكلينكس)! فما أبعده عن الإبداع الشعري العربي وجمالية اللغة العربية!
والمستوى الثالث عبارة عن كليشهات وترجمات يخالف أغلبها قوانين اللغة. أما المستوى الرابع فهو طامة الطامات، وبه تهرب العربية خجلا واستحياء؛ إذ أن المصطلح فيها فقير جداً، ولا يستوعب العلوم أو يلحق بعصر التكنولوجيا، مما جعل دراسة العلوم الصرفة لأبناء العرب باللغات الأجنبية أسلم لما تتميز به من سرعة تشكل وخفة وسلاسة في التعامل والتناول، ودقة في الاحتواء والتعبير العلمي مواكبة للعصر. كما شهدت لغة الإدارة والصحافة استحواذ المصطلحات والعبارات الأجنبية المترجمة كما مرَّ.
وتشير أكثر الدراسات والتقارير إلى تراجع اللغة العربية باطراد أمام العاميات وهيمنة الألفاظ الأجنبية التي صارت تستعمل بديلة من كلمات عربية بسيطة من باب الموضة أو العجز التراكمي. وبالنسبة لطلبة الكليات يحملهم غالباً معدلهم المتدني إلى الدراسة في أقسام اللغة العربية بلا رغبة وغيرة منهم، لذا لا يظهر بينهم متميزون إلا ما ندر.
وذكر احد المصريين في (النت) أن المأساة تكمن في عدم قدرة التدريسي على إلقاء محاضرته باللغة العربية الفصيحة ليكون قدوة تعليمية للطلبة، وهذه القضية لا اعتقد تعانيها جامعات مصر فقط، بل جامعات الدول العربية كافة. وقد لاحظت بالتجربة أن طلبة المتوسطة والإعدادية يظهرون تقبلا وفهماً وتميزاً في اللغة العربية أكثر من طلبة الجامعات.
وحتماً لا يرجع سبب ذلك الى اللغة العربية، فهي لم تشكُ في عصر من العصور السابقة عقماً أو عسر ولادة. ولله حافظ إبراهيم في قوله متكلما عن اللغة العربية:
رَجَعتُ لِنَفسي فَاِتَّهَمتُ حَصاتي وَنادَيتُ قَومي فَاِحتَسَبتُ حَياتي
رَمَوني بِعُقمٍ في الشَبابِ وَلَيتَني عَقِمتُ فَلَم أَجزَع لِقَولِ عُداتي
وَلَدتُ وَلَمّا لَم أَجِد لِعَرائِســــي رِجالاً وَأَكفاءً وَأَدتُ بَنـــــــــاتي
وَسِعتُ كِتابَ اللَهِ لَفظاً وَغايَةً وَما ضِقتُ عَن آيٍ بِهِ وَعِظاتِ
فَكَيفَ أَضيقُ اليَومَ عَن وَصفِ آلَةٍ وَتَنسيقِ أَسماءٍ لِمُختَـــرَعاتِ(53)
أسباب المحنة
السبب الأول ديني، فالإسلام دعا الجميع إلى الدخول فيه واشترط تعلم العربية لأداء الصلاة وقراءة القرآن، فلم يكن مجال لمنع الاختلاط بالأعاجم. ولأن اللغة العربية صعبة فحتماً سيؤدي ذلك بمجمله إلى التسهيل فيها وهو ما صيرها إلى لغة هجينة فعامية مع الزمن
السبب الثاني سياسي، تمثل باستحواذ الأعاجم في الدولة الأموية وتقريبهم وتمكينهم من المناصب الكبيرة فصاروا وزراء وقادة وسلاطين وأمراء في الدولة العباسية فشهّروا ألفاظهم وصيغهم. ثم جاءت مرحلة الاحتلال المباشر للفرس والترك والمغول. وقد استطاع العلماء منع اللغة من السقوط لليدين والفم، وظلوا محافظين عليها برغم العواصف العاتية. ولكن مع توالي الضربات واشتداد العواصف وانصراف العلماء حدث تراجع عام مضطرد. حتى إذا وصلنا أعتاب العصر الحديث استحوذ النموذج الغربي في الصعد كافة فوقعت اللغة العربية في (محنتها).
السبب الثالث تقصير العلماء أنفسهم؛ فعليهم يقع أولا عبء حفظ اللغة العربية والحفاظ عليها، وتحديثها باستمرار لتبقى في مركزها الأول من العالمية. اذ صرنا نسمع دعوات من بعضهم إلى تسهيلها ومناداة آخرين بتسييد العامية، وإذا قدموا عملا فهو فردي غالبا وتنقصه الدراسة العميقة وتغلب عليه التقليدية. بل ما يدعو إلى العجب حقاً أن مجمع اللغة في بغداد ليس فيه عضو واحد متفرغ، بل كلهم موظفون يجتمعون دورياً، وحتماً بهذا الواقع البائس لن يقدموا او يتقدموا باللغة العربية. بينما طور علماء العصر العباسي اللغة وشذبوها فلاءمت عصرهم، واستوعبت ترجمات العلوم المختلفة: الرياضيات والطب والفلك والفلسفة والمنطق وغيرها، كما استعملوا آليات تحديثية فيها كالاشتقاق والنحت والتكثيف والاختصار لتسريعها وترشيقها للتعبير بخفة وعصرية فأعطت نتاجاً مشهوداً في لغة الشعر والنثر.
السبب الرابع عدم دعم الدولة بشكل كافٍ. ولا ينكر أثر الدولة في تطوير اللغة، فالخلفاء العباسيون جعلوا إتقان اللغة والبروز فيها الطريق إلى الوزارة فـ(آل برمك) و(آل سهل) و(آل طاهر) وغيرهم من البيوتات التي نالت الوزارة هم في الأصل كتاب. كما أجزلوا العطاء لكل العلماء. والدول العصرية تجعل تطوير اللغة ضمن أجندتها السياسية؛ فقد اجتمع الرئيس الألماني قبل سنوات بعلماء اللغة الألمان طالبا منهم رفع نسبة المصطلح في اللغة الألمانية ليكون متساوقاً مع التطور العالمي أسوة بالمصطلح في الانكليزية. بينما نجد عدم المبالاة باللغة العربية من الحكومات العراقية، وسجلت حكومة إقليم كردستان نشاطاً واضحاً لإنعاش اللغة الكردية وجعلها لغة عالمية برغم محليتها.
السبب الخامس الاحتلالات والهيمنات الأجنبية، اذ عملت منذ البويهيين والسلاجقة والمغول والعثمانيين وصولا إلى الاحتلالات الغربية الحديثة، على قتل بقايا السليقة وترويج لغاتها فاندست ألفاظها في العربية بالتتابع مع كل محتل، فخفي الكثير منه وعرف الكثير وكلاهما يستعمل الآن ولا غنى او بديل منه. كما عمل تشتت العرب على ظهور عاميات مختلفة: مصرية ومغربية وعراقية وسورية وخليجية وغيرها. فصارت العربية على عتبة الاندثار والانتحار.
ومعروف أن اللغات تسود بسيادة أهلها، فقد سادت اللغة الحبشية في اليمن وغطت على لغاتها بعد احتلال الحبشة لليمن. وأثرت اللغة الفرنسية بنسبة 60% في اللغة الانكليزية بعد احتلال (تل) لبريطانيا. وأصبحت الانكليزية والفرنسية والاسبانية اللغات الرسمية في أفريقيا اثر احتلالها وتحولت لغات الدول الأفريقية الى لغات ثانوية.
وحتماً اليوم وفي ظل تشظي الاحتلال إلى احتلالات مختلفة: سياسية، اقتصادية، اجتماعية، ثقافية ... الخ سيكون وضعنا اللغوي أكثر من مزرٍ. وسيكون من العسير جداً في ظل استمرار الحال كما هي نهوض العربية إلى خط الصدارة حيث كانت في أوج قوتها وقوة أهلها، بل قد تتقهقر إلى الخط الأخير. وحرزنا الأكبر من موتها وتلاشيها هو (القرآن الكريم) الذي حفظها وحافظ عليها إلى الآن. وهو المنطلق الجديد لها متى حسنت النيات وخلصت الأعمال.
التحييد حلا للمحنة
لابدَّ من الاعتراف بدءاً بأن اللغة العربية محاربة ومقصودة بذاتها في هذا التقهقر والسقوط في المحنة، لكونها الرابط بين القرآن والمسلمين. وان أمريكا وإسرائيل وعملائهما يسعون بجد إلى إسقاط آخر معاقل الإسلام بعد أن انتهى المسلمون إلى السقوط المرير والاستسلام لهم بالكامل. ومن هنا فعلينا أن لا نراهن كثيراً على السياسة في إصلاح العربية. على الرغم من أهمية اللغة في الإصلاح برمته ومنه السياسي، قال (كونفوشيوس): "لو أتيح لي الحكم لبدأت باللغة".
ونستطيع الاستفادة من التجربة اليابانية التي نهضت باليابان علمياً مع تقهقرها سياسيا وعسكرياً، بتحييد الجهد العلمي وإنمائه في وسط مستقل عن الوسط السياسي المتداعي. وعلى ذلك فان تحييد اللغة عن سواها من القضايا يتيح للعلماء إعادة تشكيل اللغة والارتفاع بها إلى حيث كانت في عصورها الذهبية. ويؤكد إمكان نهوضها اللغوي الأمريكي (وليم ورل) بقوله:" إن اللغة العربية من اللين، والمرونة، ما يمكنها من التكيف وفق مقتضيات هذا العصر، وهي لم تتقهقر فيما مضى أمام أية لغة أخرى من اللغات التي احتكت بها. وستحافظ على كيانها في المستقبل، كما حافظت عليه في الماضي"(54).
وتذكر الدكتورة لعبيدي ان التعريب في الجزائر اجتاح كل الميادين بعدما كانت الهيمنة فيها للغة الفرنسية(55). ويتكلم عبد القادر الفاسي الفهري عن واقع العربية في المغرب بعد الاحتلال المرير فيقول " تعمل العربية لأن تكون لغة اتصال ولغة شغل، ولغة وظيفة طيعة، ولغة مدمجة تقنياً، ولأن تكون لغة مؤهلة لولوج التقانة العصرية وشبكات المعلومات، والاتصال والتفاعل مع لغات الحضارات المتقدمة او ما يعرف بلغة الفرص"(56). وهذا يعني إمكانية النهوض بالعربية إذا أصبحت هاجساً وطنياً ومعركة وجود وهدف تطور بواسطة التحييد التام.
ويكون ذلك التحييد بجهود عربية مشتركة لعلماء اللغة في كل البلدان العربية ضمن مجمعات لغوية في كل بلد، وتتصل المجمعات بمجمع لغوي مركزي يعقد ندوات وجلسات مشتركة للمشورة وتوحيد الرأي. ويكون هذا المجمع كعمل (الجامعة العربية) ولكن له صفة علمية وليس سياسية.
ان التحييد المفترض يخلصنا من تجاذبات السياسة التي هيمن عليها المحتل بأجندات ليس فيها مكان جاد ومتسع للعلم، كما يتيح الإخلاص في العمل على أن يكون اختيار الأعضاء ووضع البرامج بحيادية لما تقتضيه المصلحة وليس على أساس المجاملات والعلاقات الشخصية. كما يجب أن يكون العمل حقيقياً لا روتينياً أو إسقاط واجب، بل الإيمان التام بأن هذا العمل جهادي مصيري.
وممكن اقتراح جملة أمور داعمة:
1- تساعد الدولة مجمع اللغة في بلدها بوضع ميزانية ضخمة تحت تصرفه. واختيار خيرة علماء اللغة في البلد وتفريغهم لعمل المجمع، وتكون قراراته اللغوية نافذة. كما تسهل الدولة للمجمع اتصاله بالمؤسسات العلمية والمعرفية: المدارس والمعاهد والكليات، والمنظومات الإعلامية: التلفزيون والفضائيات، وتدعم التأليف والنشر.
2- تقوم اتحادات الأدباء والفنانين بعمل تكاملي مع المجمع اللغوي؛ ذلك أن الأدب هو تطبيق فاعل وحيوي لقرارات اللغة. كما تدعم المجمع وزارة الثقافة بكل تشكيلاتها وأدواتها الثقافية.
3- لرجال الدين أثر مهم وكبير في الحث على العربية ومنح ذلك مسحة قدسية ولاسيما أن قراءة القرآن وتدبره يحتاجان إجادة متينة للغة العربية. وبمقدورهم الإسهام بما يمتلكون من منابر خطابية وثقافية التثقيف لتطوير العربية.
4- يجب توحيد الجهود لوضع قاموس لغوي جديد وشامل يدرس الأتي:
أ- التمييز بين المفردات العربية والمعربة والدخيلة والعصرية. واقتراح ألفاظ عربية تكون بديلة من الاجنبية، وتعريب ما لابد منه.
ب- التاريخ اللغوي للمفردات، بتتبع التطور الدلالي لكل مفردة في العصور. فمثلا استعملت (الصحيفة) في العصر الجاهلي بمعنى قطعة جلد يكتب عليها، وتطورت في القرآن بمعنى الكتاب (إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولَى* صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى)(57). واستعمل الديوان (وهي كلمة فهلوية تعنى المجنون تعجبا من حفظه المعلومات) في صدر الإسلام أول مرة بمعنى سجل أسماء المقاتلة ومقدار أرزاقهم. واستعملت لفظة الجريدة لما يكتب عليه في العصر العباسي باستخدام الورق، ولم يعرف في العصر الأموي إلا بمعنى (المختار من الخيل وغيرها، فتقول جرد خيلا أو جيشا: أي انتقاه واختاره). واستعملت الجريدة بمعنى الديوان، وجمعهما النويري بقوله متحدثا عن جيش احد الأمراء: "واشتملت جريدة ديوان الجيش على ما يقارب أربعماية ألف فارس(58)". وتغير معنى الجريدة في العصر الحديث فتمحضت للأخبار مناظرة مع (news paper) لاتخاذها من الورق ، وأصبحت والصحيفة بمعنى واحد.
واستعملت لفظة (طمَع) في العصر العباسي بمعنى (وقت الراتب)(59) حين اقتضاها العمل الإداري، واشتقاقاً من جذر معنى طمع، وهو: (قرب حصول الأمل والرجاء)(60)، ونسيت في الوقت الحاضر.
وهناك ألفاظ كانت لها معان عدة فبقى معنى واحد مثل: (نبيل) كانت تعنى: الرجل الضخم والحاذق والفاضل، فبقي المعنى الأخير. وتوجد ألفاظ استعملت بمعنى وصارت تستعمل بغيره مثل (سخل) كان يعني الضأن، والخروف المذكر منه، كقول الإمام علي () "إن في بيتك لسخلاً يقتل ابن رسول الله"(61) يعني خروفاً. بينما صارت (سخل) نطلقها على (الماعز). ويضاف إلى الموروث من الألفاظ ما استجد واستعمل في الوقت الحاضر.
وقد أضاف المعجم الوسيط لمجمع اللغة في القاهرة كلمات كثيرة مؤشراً معاصرتها، ولكن مؤلفيه لم يهتموا بمتابعة كل كلمة، ومن الكلمات المشتهرة استعمالا وشعراً الكلمة المصرية (عزوة) بمعنى أهل وعشيرة الشخص فإليهم يعزى، كقولهم (هؤلاء عزوتي) أي أهلي وعشيرتي. ولم تستعمل قبل العصر الحديث وفي مناطق عربية معينة، ووردت في شعر (أبي الهدى الصيادي) و(حسن عبد الرحيم القفطي).
ج- الجغرافية اللغوية؛ ويقصد بها القاموس اللغوي الخاص بمكان معين من الأماكن التي يسكنها العرب. فالعرب في المشرق لهم ألفاظ وصيغ خاصة لا توجد عند المغاربة. وكذلك العرب الموجودون في جورجيا وإيران. وهناك جهود جزئية لمستشرقين درست قاموس أماكن عربية بعينها، وإن على المعجم الجديد توحيد تلك القواميس وجمعها.
د- المعنى الجذري لكل لفظ، فمثلاً نقول: (هذا حلس المقاهي والانترنت) أي ملازم لها كما في أغلب القواميس. بينما المعنى الجذري لـ(حلس) هو الغطاء الذي يوضع على ظهر الدابة مباشرة ويوضع فوقه السرج، ولأنه ملازم لظهر الدابة أصبح معنى حلس العام الملازمة لأي شيء. فيردّ معنى الألفاظ إلى معناه الأول ويذكر معه المعاني المستحدثة.
هـ- التمثيل للألفاظ بجمل، كما تفعل المعجمات الحديثة، وقد فعل شيئا قريباً الزمخشري في (أساس البلاغة) اذ كان يذكر مثلا عربيا إزاء كثير من الألفاظ لا كلها.
5- يعمل الأدباء واللغويون والباحثون والفنانون على التقدم باللغة العربية من مستوى اللغة الثالثة خطوات إلى اللغة الأصلية، والعمل على إحياء الكلمات المهملة والميتة الصالحة للعصر الراهن، بترويجها في الكتابات الأدبية والتأليفات العلمية والأعمال الفنية، كما فعل مثقفو القرن الماضي كأحمد شوقي وطه حسين والعقاد والرافعي والمنفلوطي وغيرهم.
خلاصة المحنة والحل
تبدو العربية اليوم من خلال ملاحظة حركتها وحيويتها ونتاجها كعجوز مريض يعملون على اطالة عمره وابقائه حياً صناعياً. فلغة الضاد خلت من الضاد تماماً، كما أصبحت أكثر الألفاظ العربية غير معروفة من قبل حتى المثقفين، وهي الألفاظ العباسية التي تمثل مرحلة وسطية بين العربية الجاهلية والعربية اليوم، فكيف حال المعرفة بألفاظ العربية الجاهلية؟ انها انتهت حتى شعورياً، وصارت لغة متحفية تماماً.
ان محنة العربية في انها تراجعت على صعد التعبير كافة: يومية، أدبية، إدارية علمية. ومن ثم فهي لغة تفقد الحياة، ويجد أهلها ضرورة تعلم اللغات الأجنبية بإلحاح لمواكبة التطور في الحياة المعاصرة. وهذا الشعور لا يحسه مواطنون يتكلمون لغات لا تقاس بالعربية في التعبير كاللغة الروسية والتركية والصينية. مما يدعو بجد إلى تدارك خطر موت العربية وتشخيص العلة ووضع العلاج الناجع.
لقد وضعت حلول جزئية من قبل علماء اللغة تمثلت بتصحيح الخطأ الشائع في الكلام والكتابة. إلا أن هذه النداءات بقيت واقفة على عتبة المثقفين والقراء، بعيداً عن ضمير الشارع والبيت. ولم تكن المؤسسات العلمية والمعرفية أحسن حالاً من ميادين أخرى؛ ذلك أن اللغة الفصحى غائبة عن قاعات الدرس، فيشرح المعلم والمدرس والتدريسي النص الفصيح بلغة دارجة لأنه عاجز عن شرح الفصيح بالفصيح. كما أن الفصحى التي هيمنت على فصحاء اليوم هي فصحى الصحافة، وحتى هذه إذا تكلمها أحد يصبح مستهجناً وثقيلا مملا جداً.
وليست العربية التي علينا إعادتها هي عربية امرئ القيس ولا حتى ابن الرومي وصفي الدين الحلي، بل عربية منتقاة من الجاهلية والى اليوم باختيار الألفاظ الفاعلة والمؤثرة القادرة على استيعاب وتمثيل التقانات الحديثة وحافات العلوم والبيان الشعري والنثري الذي يحقق الوجود العربي ويعبر عن القضايا المصيرية بفصاحة وخفة. ويكون ذلك بالمجمعات اللغوية وأفذاذ العلماء ممن أتقن العربية ونفذ الى أسرارها.
إن الحل الناجع – كما نراه - وسط الانهزمات على الصعد كافة في الدول العربية كافة، هو تحييد اللغة والاشتغال على إعادة بنائها وتحديثها ومنحها القوة والفاعلية. ويكون ذلك بفتح مجمع لغوي في كل بلد عربي، ويقوم هذا المجمع بعمل خصوصي بتعريب الأجنبي وترويج الفصيح كما فعل (المجلس الأعلى للغة العربية في الجزائر) بإصدار معجم المصطلحات الإدارية، ومجمع اللغة في مصر بإصدار معجمات علمية متخصصة ومنها معجم القانون. فضلا عن توحيد عمل المجمعات بارتباطها بمجمع مركزي في مكان ثابت او متغير، يقوم بوضع سياسة مشتركة للعمل اللغوي.
ونحن إذ كتبنا هذه الورقة كلنا أمل أن يباركها الله ويكتب لها القبول والتنفيذ. ونأمل أن تسندها دراسات كثيرة جادة توضح السبل وتعبد الطريق لتصبح العربية ذات يوم قادم كما كانت في تاريخها العريق المتقادم.
المصادر والمراجع
17() كشف اللثام، ج7، ص 364.
30() المعرب من الكلام الأعجمي، ص5.
مقالات اخرى للكاتب