كُتِب الكثير عن العلمانية, وقد جاء معظمه لكي يستخلص نتائج تعتمد على ما قدمته التجربة الأوروبية من تقدم ونجاحات أكيدة, حتى بدا وكأن ذلك كان كافيا لتقرير صلاحية النظام العلماني لكي يكون قاعدة لبناء اي نظام يستهدف التطور واللحاق بعصر العلم والحضارة. وما جعل ذلك يتحرك في خانة - الحقائق الناقصة - أن النظام العلماني العربي الرسمي الذي توزعته البلدان العربية والإسلامية جاء بـ "التلقي" ولم يأتي كـ "إستجابة" حقيقية لمخاض موضوعي عسير كذلك الذي أنتج التجربة الأوروبية, بحيث ان الأنظمة العربية العلمانية الجديدة ظلت عبارة عن نظم سياسية تفتقر إلى الثقافة الإجتماعية الساندة أو المنتجة لها مما جعلها نوعا من النظم "المعلقة" التي لا تستند على قواعد صلبة. وأجد أن أفضل رسم لهذه الأنظمة هو ذلك الذي يتمثل برجل خرج توا من الحمام وهو يضع الفوطة على رأسه في حين نسي أن يستر عِريه بملابس ملائمة, أو بذلك البَّناء الذي حاول أن يبني بيتا على رمال متحركة.
لنعد كثيرا إلى الوراء على صعيد التجربة الأوروبية وقليل إلى الوراء على صعيد التجربة العربية ومنها العراقية, سنجد أن النظام السياسي الأوروبي هو في حقيقته منتجا إجتماعيا, ففي عصور مضت تأسس النظام السياسي العلماني بعد ثورة وصدام عنيف بين المؤسسة الدينية بكل تقاليدها وأعرافها ونصوصها الثقافية وبين المؤسسة الفكرية والعلمية الآيلة للولادة والصيرورة التي قدر لها أن تنمو وترعرع في رحم ذلك الصراع الذي إستغرق فترة طويلة قبل يوم الولادة, فالأنظمة هي أيضا مخلوقات حية وليس مقدرا لها أن تكون كذلك ما لم تكن قد نمت وترعرعت في رحم إجتماعي وثقافي يمكنها من ولادة طبيعية شأنها أن إنجاب مخلوق غير مشوه أو ناقص.
لكن قليلا من العودة إلى الوراء سوف تضعنا أمام تلك اللحظة المفصلية التي ولد فيها النظام العلماني العربي الجديد. ونعرف أن ذلك كان حدث بعد الحرب العالمية الأولى وبالتحديد في أعقاب إنهيار الدولة العثمانية على أيدي دول التحالف الغربي الذي كان قد تشكل من إنكلترة وفرنسا وروسيا بشكل اساس, وقد قيض لرجالات من السياسيين العرب القريبين والمتعاونين مع دول ذلك التحالف أن يقوموا بدور رئيسي في بناء هذه الأنظمة (المتعولمة) التي أخذت على عاتقها بناء دول عربية تتقدمها سوريا والعراق. وحتى مصر, التي ظلت بعيدة عن الحكم العثماني المركزي, فهي لم تنتج نظامها الملكي بعيدا عن إرهاصات تلك الحرب ونتائجها التي تكللت بسقوط النظام الإسلامي الرسمي المتمثل بالدولة العثمانية. أما دول المغرب العربي فيبدو أنها أيضا كانت بعيدة عن مركزية الحكم العثماني, لكنها لم تكن بمنأى عن نفوذه العام وهيمنته, على الأقل بسبب عدم وجود القوة المركزية البديلة القادرة على تقديم نموذجها السياسي والإجتماعي الخاص. بالتالي فإنه يمكن القول أن هذه المنطقة , بشرقها وغربها, إنتقلت من واقع سياسي إلى آخر سياسي بديل لم يرافقه اي تحول ثقافي أو إجتماعي يكفل له ان يأتي كنتاج متجانس, فظل التناقض الكبير يكمن بين بنيتيه, السياسية الفوقية والإجتماعية التحتية.
إن هذه المقارنة السريعة والبسيطة ستجعلنا أمام الحقيقة التالية: العلمانية السياسية الأوروبية كانت منتجا إجتماعيا قبل ان تتشكل كنظام سياسي, اي أن ما هو سياسي هو إجتماعي في نفس اللحظة. على الجانب العربي, وبسبب فوقية التغيير حال سقوط الدولة العثمانية, فإن الولادة السياسية لم يسبقها مخاض إجتماعي فجاء النظام العلماني العربي وكأنه إبن بالتبني أو بالإستعارة.
عراقيا, الحاجة إلى العلمانية في يومنا الحالي لم تعد تأتي تقليدا وتيمنا بتجربة علمانية غربية تأكد نجاحها وإنما أيضا لأن بقاء العراق كدولة واحدة قد بات صعبا بوجود الإسلام السياسي المذهبي المتخاصم والمتقاتل مع بعضه ومع الآخرين.
إن إعادة بناء دولة علمانية عراقية وليس "عليمانية", وقد أصبحت ضرورة أساسية لبقاء العراق وطنا للجميع, لا بد وأن يمر هذه المرة من خلال ثورة جذرية على الصعيد الإجتماعي تناول بشكل اساسي تثوير المجتمع لغرض قطع علاقته بكل شكل من أشكال التخلف الفكري والمؤسساتي, وهي عملية تحتاج إلى التوير والتثوير في آن واحد وتبدأ من خلال التخلي عن روح المجاملة السائدة بين المؤسسات الدينية والمؤسسات المدنية.
أن العلمانية عراقيا لم تعد حاجة تطور وإنما حاجة بقاء, ولهذا صرت أرى ان العلمانية لو لم تنشأ في الغرب للصار ضروريا لها أن تنشأ في العراق, فبدونها لن يعود هناك عراق إلا كمجموعة دويلات يجمعها ربما علم واحد, لكن تفرقها سواعد وأفكار قد تجعل من ذلك العلم ليس أكثر من قطعة قماش, وهي مستعدة لمقاتلة بعضها حتى بصواري ذلك العلم نفسه.
مقالات اخرى للكاتب