لطالما كانت هذه المقولة ( ذبهه براس عالم وأطلع منهه سالم ) , خاتمة لكثير من الاحاديث والجدل التي تتناول المواضيع الدينيه أو الفقهية أو العقائدية وحتى في بعض الاحيان السياسية , ولكن لايبدو أن هذه الخاتمة مقنعة للبعض والذين يفضلون التعمق الجدلي والاستفهامي على المسلمات التي يفضلها البعض الاخر لتجنب دوخة الراس كما يطلقون عليها , وهذا بحقيقة الامر هو نوع من الخلاف الجمعي الذي يُنشأ تيهاً فكرياً ويؤسس تفككاً حضارياً تكون نتائجه خطير جداً أذا لم تعالج بوادره بشكل منهجي وتفاعلي بين الحداثة كواقع حال وبين الارث ومخلفاته المتباينة دينية كانت أم أجتماعية أو ثقافية , وفي المحصلة يمكن مدّ روابط تواصلية بين الارث والحداثه لينطلق بعدها مفهموم ( المجتمع الحضري ) .
لازالت أغلب المجتمعات التي لم تعتمد أسس حضارية في تنمية مجتمعها البشري قابعة في حيرة وفي صراعات جدلية وفكرية بين التقدم السريع في معطيات الحضارة الحديثة وأنعكاساتها المتجددة في متطلبات المجتمعات المدنية , وبين ذلك ألارث الذي لم يستطيع أن يغادر زمانه الذي نشأ فيه , وعلى مر العصور أزداد ذلك الارث تعقيدا وسقط في فخ الفلسفة المدقعة بالقراءات والنظريات والتحليل الشخصي , حتى أصبحت المعلومة البسيطة يكتنفها الكثير من التأويل ولابد من مراجعتها من مصادر وكتب ومرجعيات عديدة , وربما في النهاية لايمكن أستنتاج ولو خلاصة توافقية يمكن بها ردع أشكالية بسيطه , وقد تعدى ذلك الى كثرة مصادر التشريع وتباينها من مشرع الى أخر ومن عصر الى أخر مما أدى الى ظهور مناهج ومدارس فقهيه وتشريعية لا حصر لها منها مازال قائم ومنها ما أصبح طيّ الكتب لايتعرف عليها ألا الباحثون الاختصاصيون , ولعل هذا كله أسهم في توارث تشريع غير متواصل مع الحداثة بمفهومها العام وتبتعد عن القواعد التي أنطلق منها ألاساس ألايديولوجي للتشريع .
وبتعدد مصادر التشريع تعددت المرجعيات والفرق والتيارات والمحققين والشخصيات الفكرية , وأخذت تستغل وسائل الاعلام المختلفة كالقنوات الفضائية ووسائل التواصل الاجتماعي وغيرها لتوسيع الانتشار الفكري والجماهيري وتبقى الاسباب مختلفة وغير واضحة تماماً , وكل طرف يلقي بالحجة على الطرف الاخر بما لديه من كتب ومصادر وأحاديثها وأسانيدها وصحيحها ومتواترها وهو يريد تفنيد مزاعم الاخر والذي بدوره لديه كتب ومصادر تعادل الطرف الاول بالمقدار وتعاكسها بالاتجاه , وكل طرفٌ بما لديهم فرحون , وقد ظلت هذه الجدلية في دوائر أنعكاسية تدور حول أثبات الفكر لا تحديثه وأسهبت في تعميق الهوه بين الموروث والحداثة الفكرية المعاصرة , ومع أن البعض أنتبه وحاول أن يؤسس الى تحديث هذا التوارث الا أنه في الاعم بقى كما هو , ولهذا أصبحت تلك الجدليات والخطابات وحتى بعض التشريعات لاتتمازج ولاتتوافق مع الحداثة المدنية , وأخذت لاتعي مفهوم التطور الحضاري وآلياته وأنظمته ولاتستطيع أن تجاريه وبقيت في قيود الرتابة والتكرار والسذاجة وكل ما تبقى منها هو أعتمادها على الجمهور ومشاعر البساطة وغلبة العاطفة على مفهوم الحداثة الفكرية .
وما نحن فيه اليوم من تهاوي المنظومات السياسية والامنية والاقتصادية وحتى الفكرية وربما حتى العقائدية , وتكالب الاحزاب وتعدد مرجعياتها وكثرة الشخصيات السياسية وعدم كفاءتها أدى الى فشل في المنظومة الحكومية والتي عليها كما هو مفترض أن تؤسس دولة مدنيه وحديثة , وكان من المتوقع أن تتصدى المرجعيات المختلفة الى هذا الفشل بمستوى التحديات التي تواجهنا , فبعد عشر سنوات من اللعب بمقدرات أمة وشعب أستكان وأنتظر طويلاً وخاب ظنه بمن أوصلهم الى سدة الحكم , نرى أن الخطاب التشريعي أقتصر على كلمتان بينهما لا...( المُجرّب لايُجرّب) هذا كل شئ , من منا لايعرف هذا الكلام ونحن نطلقه باستمرار لكن ليس بمستوى مصير شعب فقد ننصح أحد الاصدقاء مثلا بعدم الذهاب الى مطعم أو خياط ملابس أو أن تدخل في شراكة مالية بسيطة أوسفرة الى أحد الدول وهكذا , ننصحه لكوننا جربناها مع العلم أن الصديق قد لايأخذ بنصيحتنا كونه لديه وجهة نظر تختلف عنا , ونحن نكون بهذا قد شخصنا من هو المُجرب بشخصه , ولم يكن ذلك بالصوره العمومية كما جاء بالخطاب المرجعي , فمن هو المجرب وماهو توصيفه بالمسؤولية وهل لدينا مايكفي لعدم تجربته مرة أخرى , لا ندري أن كان هذا الخطاب يشمل الكل أو شخصيات معينه وهل يشمل المعممين المقربين من المرجعية وأبناء المرجعية ومن يتكلم بأسم المرجعية , أو يقتصر على شخصيات كانت لاتتوافق مع توجهات المؤسسه الدينيه وتطلعاتها .
اليوم الكثير من الشخصيات التي أسست ما نحن فيه من الفشل تدافع بضراوة عن هذا الخطاب وتتهم الجمهور البسيط بانه قد أنتخب نفس الوجوه التي في الدورة السابقة ويطلق التصريحات المكرّره ليبرئ هذا الخطاب من المسؤولية , وأن بعض السذج من الجمهور يعلنون ندمهم وأنهم يودون لو قطعوا أصبعهم , هذه البساطه الفكريه لدى الجمهور والتي كانت نتيجة معاناة لسنوات طويلة نراها قد أُستغلت في الانتخابات السابقة ومن نفس أصحاب الخطاب , وهكذا ضاع الجمهور في دوامة من الصعب الخروج منها , وستستمر تأثيراتها عليه طويلاً وما الوضع الاقتصادي الا دليل واضح على ذلك , فهل فعلاً سيتحمل هذا الشعب عدم أطاعة هذه الكلمتين وبينهما لا , ويكون المشرّع بعيدا عن أي مسؤوليه شرعية , ماعلينا فعلاً هو مراجعة فكرية حضارية تعتمد على حيثيات منبعثة من أساسيات الاشكاليات ألتي أدت الى هذه التبعيات وهي كثيرة وعلى رأسها النظام الانتخابي الذي مهد لهذه الاحزاب التسلط والهيمنة على مقدرات الدولة وفق محاصصة وتوافق على المنافع والمكاسب , فلماذا يكون الشعب هو المذنب بدلا من أن تأخذ القوانين والانظمة الحديثة مجراها في التصدى لكل من تسولُ له نفسه في أي فساد أو فشل أو عبث بحق شعبنا , وأصبح الكثير منا يرى أن مستوى الخطاب وكأنه في زمان غير زماننا في عصور الملوك والولاة والخلفاء وغيرهم وهذا لن يغير من جوهر التحديات والمصير المجهول الذي يتهددنا شئ , فهل سنرى خطاباً أخر محدثاً بعد سنتين مرة أخرى أم سيكون كما هو أو يضاف له ويصبح معاتباً ( ألم نقل لكم بأن المجرب لا يجرب ) .
مقالات اخرى للكاتب